سونر چاغاپتاي
كان علينا أن ننتظر قليلاً للتأكد، لكن الأمر اتضح الآن: الحزب الحاكم للرئيس رجب طيب أردوغان عانى من هزيمةٍ في المدن الرئيسة في تركيا في الانتخابات المحلّيّة التي جرت في اليوم الأخير من الشهر الماضي.
مرّ وقتٌ منذ أن كان أردوغان – سواء أحببتموه أم لا – يمثّل التغيير. فقد دافع عن رؤيةٍ تطلّعيّة للبلاد، مشيراً إلى قدرته على تجاوز التحديات الأكثر إلحاحاً، بدءً من القضية الكردية مروراً بالفساد وانتهاءً بسوء الإدارة الاقتصادية، وهذا ما فعلَه. وأحبّه الناس لهذا السبب ودعموه في صناديق الاقتراع.
لكن الوضع تغيّر الآن. فقدْ فَقَدَ أردوغان لمسته السحرية. ولم يعُد يمثّل التغيير في تركيا. بل يساند الآن الوضع الراهن.
وفي الانتخابات المحلية التي أُجريت يوم الأحد في جميع أنحاء البلاد، خَسِر حزب أردوغان الحاكِم – «حزب العدالة والتنمية» – في أبرز السباقات الاستراتيجية، بما فيها مقعديْ رئاسة البلدية في العاصمة التركية أنقرة، وفي إسطنبول، أكبر مدن البلاد. وشكّلت هذه الهزيمة مفاجأة، لأن المسرح الانتخابي في تركيا كان يميل تماماً لصالح أردوغان: فبالكاد يُسمع صوت قوى المعارضة في وسائل الإعلام في البلاد، التي تسيطر على 90 في المائة في المائة منها تقريباً شركاتٌ صديقة للرئيس.
وليلةَ الأحد الماضي، بينما كنتُ أشاهد الانتخابات على قناة «سي أن أن تورك»، أعلن مرشّح «حزب العدالة والتنمية» لرئاسة بلدية إسطنبول، بن علي يلدرم، النصر في السباق التنافسي في تغطيةٍ مباشرة، قبل فرز جميع الأصوات. ومن المؤثّر أنه عندما أصبح واضحاً أن هذا ليس هو الحال، رفضت قناة «سي أن أن تورك» نقل مرشّح المعارضة أكرم إمام أوغلو في بثّها. ثم ناقش فريق الانتخابات في الشبكة في تلك الليلة خطاب إمام أوغلو من دون الإشارة إليه بنحو مباشر. ولم أشهد أبداً في حياتي مشهداً سياسيّاً كابوسيّاً بقدر ذلك المسرح.
وعلى الرغم من الطبيعة غير العادلة التي اتّسم بها السباق الانتخابي، تمت تنحية حزب أردوغان عن السلطة في جميع المدن الست الكبرى في تركيا باستثناء واحدة منها في 31 آذار/مارس – برغم أن الرئيس أمضى شخصيّاً عدة أسابيع في لمّ شمل حزبه. وقبل يومين من الانتخابات فقط، ألقى ستة خطابات في جميع أنحاء اسطنبول لصالح يلدرم.
قبل بضع سنوات فقط، كنت أعتقد أن الشعبية الاستثنائية لأردوغان كانت هائلة جدّاً لدرجة أنها تخوّله حتى ضمان انتخاب جثّة. إلا أن فَشَل رئيس الوزراء السابق يلدرم يُظهر أن أردوغان لا يستطيع القيام بهذه الخدمة لساعده الأيمن.
فبعد تولي أردوغان منصب رئاسة الوزراء في عام 2003 ومنصب الرئاسة منذ عام 2014، حَكَم تركيا فعلاً لمدة 16 عاماً، وأصبح أقوى سياسي في البلاد في التاريخ الحديث. ولكن هنا تكمن المشكلة: لقد ازداد عدد مواطني البلاد ما يقرب من 31 مليون تركي، أي أدنى بقليل من 40 في المائة من سكّان البلاد، أو أنهم بلغوا سن الاقتراع تحت حُكمه. وهؤلاء المواطنون يحمّلون أردوغان مسؤولية المشكلات في تركيا، بما فيها تَجدُّد النزاع مع الأكراد وانهيار الاقتصاد، ناهيك عن البيئة القمعية المتزايدة تجاه المعارضة.
كما لم يَعُد أردوغان يُلهم الناخبين مثلما اعتاد أن يفعل. وتذكّرتُ ذلك عندما كنتُ أشاهد شريطاً مصوّراً للحملة يُظهره وهو يجتاز في سيارة عبر إحدى مدن البحر الأسود خاضعاً للحماية الأمنيّة المشددة، مع عشرات سيارات الشرطة التي تحرس عربته. وكان العديد من ضباط الشرطة يقف على جانبيْ الشارع كل عشرة أقدام، ويراقبون عن كثب الحشود التي لم تتجاوز سماكة صفّها شخص أو شخصيْن. وكان أردوغان يرمي أكياساً من السلع إلى هذه الحشود غير المتحمّسة من وراء الدرع المضاد للرصاص في موكبه المحصّن. وهذا لا يعني أن أردوغان خسر كل الدعم بين الأتراك. فحتى وقتٍ قريب، كان يوفّر نموّاً اقتصاديّاً هائلاً، ويُخرج الناس اليائسين، سيما أنصاره المحافظين، من براثن الفقر. وبقي حزبه الأكثر شعبيةً في انتخابات يوم الأحد بحصوله على حوالي 45 بالمائة من الأصوات. وفي حين أن خصوم أردوغان، بمن فيهم العديد من اليساريين والعلمانيين والليبراليين، يكرهون أسلوبه الاستبدادي في الحُكم، إلّا أن العديد من أبرز مناصريه المحافظين ما زالوا يؤمنون به. إن المأزق الذي يواجهه أردوغان هو أنه بلغ منعطفاً في مسيرته يتخلى عنه الكثيرون من الناخبين في البلاد، الذين يشكّلون أغلبيةً في المراكز الحضرية. لقد دخلت تركيا مرحلةً من الركود في آذار/مارس، وأدى التراجع الاقتصادي المؤلم إلى انسحاب عددٍ أكبر من المناصرين.
فإذا أراد أردوغان أن يعود إلى الساحة، عليه أن يصبح مرة أخرى وجه التغيير الإيجابي في تركيا.
والفرصة متوافرة. فقد كانت تركيا تشهد عمليات اقتراع على مستوى البلاد (ما مجموعه سبعة) أو تمر بأحداثٍ مفجعة (مثل محاولة الانقلاب عام 2016) كل سنة منذ عام 2014. ولن يواجه أردوغان انتخاباتٍ جديدة – أو، على ما نأمل، لن يواجه المزيد من الأحداث المفجعة – حتى عام 2023. وأعتقد أن الرئيس التركي هو شخصٌ عملي، وعليه أن يغتنم هذه الفرصة للتواصل مع النظام السياسي في البلاد وتطبيعه، بدءاً بخطابٍ تنازلي يهنّئ فيه رؤساء بلديات المعارضة في اسطنبول وأنقرة ومدن رئيسية أخرى. ثم عليه أن يتحرك لإنهاء قمع المعارضة.
هذا هو السيد أردوغان الذي سيتذكّره التاريخ جيداً. أما أردوغان الآخر فهو ذلك الذي سيقل شأن إرثه بسرعة وسيتذكّره الناس كقائد اضطهد شعبه للتمسك بالسلطة. وستتلاشى صورة أردوغان في الذاكرة الشعبية.
سونر چاغاپتاي: زميل «باير فاميلي» ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، ومؤلف الكتاب: «السلطان الجديد: أردوغان وأزمة تركيا الحديثة».
معهد واشنطن