الهيتي واغنيات ديموزا(مزامير ديموزا)

ضمن فعاليات مهرجان هيت

علوان السلمان

لقد ارتبط الأدب جدلياً بالحياة.. لذا أصبح الوعي التأريخي والــفهم الجدلي للاشياء ضرورة للشاعر كي يكون مؤثرا في الاحداث.. مساهما في خلقها بقدر ما يحمل من وعي تأريخي وحضاري..ولكون الشعر خلقا يبحث عن حرية وحريته هذه لا تستقيم الا بمعرفة قوانين الطبيعة والمجتمع..و(اغنيات ديموزا) المجموعة الشعرية التي ضمت ثلاثا وعشرين قصيدة توزعت ما بين النص الفراهيدي(ستة نصوص اربعة منها اعتمدت الشطر والعجز واثنان تجاوزا الفراهيدية واعتمدا توزيع التفعيلات للاقتراب من الحداثة مع اعتماد الوحدة الوجدانية للتجربة.. كقوله:
قبل ان ترسو على الجودي
اطراف السفينة
قبل ان يهدم ابراهيم
بالحكمة
اصنام المدينة
ويسمي آدم الاشياء
بالاسماء
في ذاك الزمان
كانت الارض سماء
وعلى اليابسة الاخرى
تلاقى النيران / ص9
و نصوص التفعيلة كما في نصه المتناص ونص السياب(الشمس اجمل في بلادي من سواها)..
ان شمسا تشرق الساعة
في اوروك احلى /من سواها
انها اصفى وارقى ياحبيبي
في سماها
من سدوم
ومجرات تحوم
ما تراها / ص105
ومقدمة للناقد علوان السلمان شكلت نصا موازيا مضافا للعنوان العلامة السيميائية والايقونة الدالة على المتن والمتضامنة والعنوانات الفرعية بنصوصها التي تدخل ضمن اطار النص الدرامي..
لكل من دب تحت الشمس عنوان
فاين عنوان من كانوا؟ وما كانوا
واين القاك يا تمــــــوز تقرأها
رسالة كلها هم ……واحزان
واين القاك يا تموز يأسرني
هواك والقلب في ذكراك حيران
عندي ليومك اشياء وقافية
رويها عتب مر واشجان /ص29
فنصوص الشاعر ممتلئة بالوعي والديناميكية.. لذا فالتعامل معها يجب ان يكون بوعي مواز لها.. لمعرفة ما تطرحه من قيـــم ومواقف انسانية وجمالية..
هي المرؤة تدعوني فاسبقها
كما شهدت فان الحق إيمان(ص32)
وقوله:
ليت الحوادث لا عادت فواجعها
ان الزمان مسرات واحزان (ص33)
وقوله:
يبقى وتبقى ديار الله واسعة
وليس بعدك يا اوطان اوطان
فالقيمة الفنية لقصائد الشاعر تتجسد في الحكمة والرفض والثورة.. الذي اكسبها تفردا فنيا.. اضافة الى البساطة والقدرة على البناء الذي اعتمد الرواية بعيدا عن الزخرفة البيانية بحيث اصبح غناؤه عنصرا فاعلا في نسجه الزماني والمكاني .. فالقصيدة عنده بذلت جهدها في استيعاب الموروث والعصر.. فهي تصممه لانه بطلها.. فرسم قصائده تحت وهج العذاب مما ادى الى نمو صوره واتساعها .. ورغم هذا بقي حبيس الحوار الذاتي (المنولوجي) الذي انعكس على احداثه وصوره..
هوى عشتار يغمرني حنينا
لأوقظ عرشها بابا فبابا
واشهد بابل الخضراء فيه
معززة يحف بها الاهابا
يرى فيها رغيف الخبر احلى
وكوز الماء اعذبها شرابا (ص22(
وقوله:
وقد قاسيت من سبع عجاف
لا حمل بعدها سبعا صعابا
فلم اجزع من الجوع احتمالا
ولم اطلب على صبر ثوابا (ص62(
فبنية القصيدة عند الشاعر تمتاز بمتانتها وقوة ايقاعها.. مكملة بالرموز المؤطرة بالصور..
انا ما تبدعه الشمس
من الخضرة في كل الحدائق
فاملأي عينيك يا عشتار بالحب
فهذا المطر الاخضر من ماء الفرات
املأي مائدة الاطفال بالخبز
فهذا الذهب الاصفر من طين
ومن ماء ومن دمع مراق
املأي عينيك ياعشتار
من وجهي..انا وجه العراق /ص11
فالشاعر ينهك ذاته حرصا ودقة في سبك قصائده من اجل اقامة بناء الحياة الجديدة والانسان ..مستمدا عناصره من التاريخ والاسطورة والحلم وحقائق الواقــــــــع..اضافة الى اضفائه حسا بموسيقية اللغة والكلمة والوحدة الصورية التي ترتفع بالشعر من مستوى الالفة الى المستوى الذي يوقظ فينا الغرابة ويحرك مشـــــاعرنا مندهشة..
من ايما هاجس للشعر انطلق ؟
وايما لاعج للشوق استبق ؟
وأي خاطرة بيضاء باقية
ما طالها الهم واستشرى بها القلق (ص38(
ووجه عشتار مثل البدر مؤتلق
لا كالرغيف اذا الاضواء تأتلق
قد باركتك عراقا ما يزال على
راياته يولد الانسان والشفق
الشمس تبني على الوركاء منزلها
والنجم في بابل الفيحاء يأتلق (ص44)
فالهيتي شاعر يسيطر على انفعاله فيتحول الى مغن يشدو لتموز وعشتار مستجيبا لاغانيه التي تعشقت (انانا) الخصب السومري والحب..
انه كالشاعر (سان جون بيرس) الذي استطاع ان يرى امواج الحرية الانسانية كبحر زاحف نحو الشطان الهادئة والغافية في احضان خضرتها..
منذ ابتداء اليوم السابع بعد الخلق
وامتلاء الكرسي الاول بالاسماء
(أنانا الخبز)..
(انانا) الماء..
(انانا) الفرح الاقدس
والموت القابع في الطين وفي الاشياء
تنساب الخضرة ملء العين
وتولد من رحم الارض البكر اليوم /ص14
(آنانا هي آلهة الخصب والحب عند السومريين وهي زوجة ديموزي)
فالشاعر يبحث عن منفذ للخروج بالوطن صوب المستقبل .. لذا يلجأ الى عالم الاسطورة كي يضيء له دربه..وان يكون صوته مع الحياة فيكون كشفه عن العالم والتعبير عنه بصدق مع كسر الثبوت وطوق العادة كي يكون خالقا ومبدعا..فوصف الواقع وصفا موضوعيا بوقوفه على ادق التفصيلات والجزئيات ..فضلا عن توظيفه الاسطورة لتشكل احساسه بالزمن فنيا..
والحوت يا عشتار حوت..
والنهر يجري والمغني لن يكف عن السكوت
والشعر ينزف حد ان يفنى من العطش القصيد
كالحب يرفض ان يعيش وان يموت
فمتى يعود اليك (ديموزا) ؟
ويلقي وزر هذا الحب بين يديك
سبع سنابل صفر وتوت ص22
فمن خلال الرموز (عشتار وانانا وديموزا وانكي) يحاول الشاعر صياغة الواقع صياغة جديدة على ضوء الرؤيا الاسطورية وعالمها المستقر في الذاكرة الانسانية الاولى .. وهذا يتطلب من الشاعر تدخله المباشر بكل قدراته لتغيير مجرى الاسطورة والواقع معا في عالم من الرؤيا الفنية..
لذا فهو يخوض في قصائد تكشف عن الصراع الذي يخوضه الانسان من اجل الحرية والحب.. عبر لغة الاسطورة ولغة الرمز والواقع..
فا ملأي عينيك يا عشتار بالحب
فهذا المطر الأخضر من ماء الفرات
املأي مائدة الأطفال بالخبز
فهذا الذهب الاصفر من طين..
ومن ماء..
ومن دمع مراق..
املأي عينيك ياعشتار
من وجهي..انا وجه العراق /ص11 ـ ص12
لقد تضمنت مزامير الشاعر التموزية حسا روحيا شفيفا بموسيقية اللغة والكلــمة..والجدة الصورية التشكيلية التي ترتفع بالشعر من مستوى الالفة الى المستوى الذي يوقظ فينا الدهشة والغرابة والانشراح.. فالجمال الشعري ومهارة الشاعر تظهر في الصور التي تخرج منها المعاني..هذا يعني ان النص الشعري عند الهيتي يعيش في قلب الاشياء والكلمــــات ممجدا الحياة والثورة التي هي الامل…
اقول والصمت موشوم على شفتي وفي الفؤاد تآخى الصبر والارق
فصرت والناس نحيا كي نعيش غدا
وما غدا الناس الا اللهو والنزق
حتى أتيت وثوبي ماتمزق من
دفع المناكب او ازرى به الخلق
كيما احييك يا تموز مفتخر حتى اكاد بنار القلب احترق (ص40)
فالهيتي شاعر فاعل امتاز بسموه الفني وعمقه الفكري.. فهو مشارك فاعل في البناء الخلاق لعالم ما يزال في طور التكوين.. اذ استطاع ان يرسم على الافق خطا يــتجاوز به نفسه كما يقول (سارتر) اذ شعره يقوم على اساس الاختيار الدقيق للمفــــــــردات وملائمتها مع وقعها الموسيقي ودقتها التصورية .. فالقصيدة عنده تحمل فكرها.. لذا فهي حسية حادة قوية..
يا ايها الحلم الجميل وعمرها
عشتار تجهض حلمها اقدارها
فيصير ماء المزن يوم استمطرت
بحرا تضيع بموجه انهارها (ص25)
فالشاعر حالم ثوري..لان الحلم يشكل من طينة الواقع هواجسه ويرتقي في صراع مع التضاد المتمثل في مدى التوتر والقلق الذي يعانيه ومواجهاته العنيفة مع الواقع وعلاقاته .. وهو يبحث دوما عن الجذور التي تمكنه من استيعاب الشحنة والتقاطها كي تفجر في ذهنه الثورة الابداعية الجديدة وتمزق كل الخيوط العنكبوتية الــتي تقيد الحركة.. وتقتل الآلام المأساوية التي تحوم حوله كأخطبوط يخترق الآفاق.. يزرع في قلبه احساس الحب والامل والايمان بقدرة الانسان لاختراق الآخر والتعــــــــــبير عن الضمير الانساني والوجود بيقظة تامة معتمدا أسلوب التشخيص والفعل المتحرك مع حركة الصور الحالمة..
وفي قصيدته (بطاقات تموزية) المهداة الى ستة من الشعراء هم (محمود درويش ومحمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب البياتي ورشدي العامل ونزار قباني وسعدي يوسف) تدل على مدى تأثر الشاعر وعشـــــــــــقه لاولئك الشعراء الانموذج.. ففي بطاقته الاولى الموجهة الى الشاعر محمود درويش يقول:
ملء اوراقك قلبي.. ملء قلبي
زمن القهر الذي تهرم فيه وتسافر
باحثا عن مدن لا يستباح الشعر
او يقهر فيها باشارة /ص96
وهنا يستخدم الشاعر اسلوبا من اساليب العربية وهو التكرار للتوكيد و ازالة الشك فاوراق درويش ومعاناته يحققها قلب الشاعر وكيانه وترتبط بمعاناته المقترنة بزمن القـــهر والرصاصة.. وفي البطاقة الثانية الموجهة الى الجواهري يفتتحها بقول الجواهري.
يموت الخالدون بكل فج
ويستعصي على الموت الخلود/ص98
ويجيبه الشاعر ببيت بنفس الوزن والقافية لكـــنه يختلف بالمضمون اذ انه يرتبط بالواقع السياسي والحياتي.. فالخائبون يتراى لهم انهم اباطرة والحقيقة انهم عبيد للآخرين.. فيقول الهيتي:
ويحيا الخائبون.. وهم نيام
اباطرة واكثرهم عبيد (ص 48)
اما البطاقة الثالثة فقد وجهت الى الشاعر عبد الوهاب البياتي وفيها يقول:
(اعرف ان الطائر حين يكون الحب.. يكون)
هذا يعني ( وجود السلام وموت الرصاصة.. )
(وان الشاعر حين يكون الشعر.. يكون)
وهذا يعني ( توفر الحرية وتنفس الشاعر.. )
وانت تقول: على ابواب طهران رايناه ( ص98 )
وهذا يعني ( انتقال الشعر والشاعر وموت القيود.. )
اما البطاقة الرابعة فكانت موجهة للشاعررشدي العامل.. وفيها يبشر باستشهاده برصاصات الغدر ودمه سيلون الجدران لوحة ترسمها انامل الاطفال في مدرسة المتنبي.. لأنه المغــــترب الوحيد من الشعراء في وطن مستباح .. لذا فهي ذاتية حزينة .. فالـــــــــــحزن من الموت اول مظاهر الحزن واعمقها تأثيرا في عاطفة الانسان بالرغم من كونـــــــه حقيقة قائمة امتازت برهبتها وبعثها للخوف الدائم كي يبقى الإنسان يتأمل ويفكر لانتزاع الدرس والرؤية الصائبة التي تصب عطفها على النفس أولا وآخراً لأنها تفتح كل فضاءات الأزمنة والأمكنة والجهات..
تقطع الدرب صبح .. مساء
بالحزن من فلكة الموت..
في هيت .. الى ساحة الشهداء
حرضتني عليك بقايا السؤال
فهل تقترح من زمان عصي محال
وطن غير هذا العراق
غير بيت على كتف الشط
يظلله في الظهيرة سعف النخيل
ويملؤه الحب بالكبرياء.. (ص53)
اما البطاقة الخامسة فكانت لنزار قباني يدعوه فيها الى التضامن مع الفقراء ويعلن الثورة مطالبا بحريتهم..
متى تعلن الحرب
يا مبدع الكلمات
على نزوات النساء
فقد ازدحمت
مصائب امتك البدوية
صحف كبرياء /ص100
وفي البطاقة السادسة الموجهة الى الشاعر سعدي يوسف فيها دعوة للعودة من الغربة..
حرضتني عليك النجوم
وام البروم..
ورائحة الرازقي والعنب المر المعتق
والشط والنخل وسرب الاوز المهاجر/ص101
وهكذا استطاع الهيتي ان يعبر مسافات التأريخ في قصائده هذه بما امتلكه من قدرة تدلل على الديمومة والامتداد الــــــــعميق الجذور باصالة لغته ورؤاه اللامتناهية…

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة