صادق الشافعي
لماذا هجمت علينا «هانوي» فارضة حضورها المحمل بكل معاني الوحدة والمبادئ والمقاومة والبطولة والصمود… وصولا الى الانتصار؟
هل جاء هذا الحضور – وربما الاستحضار – لنهرب في معانيه وقيمه من واقع يثقل على العقل والفهم، وعلى المشاعر والأحاسيس، ويحاول التعدي على الآمال. واقع يغلق لرعونته وفظاظته وخروجه عن كل منطق بشري إنساني سوي كل أبواب الفهم، فما بالك بأبواب المنطق الوطني، القومي، والثوري التحرري.
هل كان الحضور، او الاستحضار، فرارا من الكتابة عن أحداث واقع تنتهك فيه الثوابت الوطنية الجامعة، ويتم هتك الحرمات والتعدي على الحقوق والحريات حتى الإنسانية والعامة بأبسط وأقدس أشكالها.
هل هو هروب وتجنب للإحراج من مواجهة أسئلة الناس التي لا جواب لها: لماذا تنتهك حرماتهم وحقوقهم وتقمع حرياتهم.
ولماذا يتم التنكر لنضالاتهم وصمودهم وتضحياتهم. ويجري التساوم الرخيص والمهين عليها، وعلى كراماتهم، على مذبح شهوة الحكم والتسلط.
يوم الخميس 28 شباط الفائت، انتهت الى الفشل القمة التي عقدها الرئيسان الأميركي ترامب والكوري الشمالي كيم جونغ اون، في «هانوي» عاصمة فيتنام، عاصمة «هوشي منه».
وكأنّ روح «هوشي منه» كانت تنشر أجنحة حضورها في سماء عاصمته تأبى على هذه القمة ان تنجح.
وتأبى عليها أيضا، إلا ان تحمل رمزيتها، وان تعطي درسها.
أما عن الرمزية،… فقد كان مراد الرئيس الأميركي من عقد القمة في هانوي القول المعلن بأعلى صوت وعلى مشهد ومسمع العالم كله، ان الدنيا تغيرت، والأمور تبدلت. وان التغيير والتبدل جاءا على الهوى الأميركي.
فها هو الرئيس الأميركي يعود بكل ابهته الى هانوي عاصمة «هوشي منه» وعاصمة فيتنام الموحدة الآن.
ها هو يعود الى عاصمة البلد الذي قسّمته أميركا واحتلته لعشرات السنين في القرن العشرين، هذا البلد الذي الحق بأميركا وقيادتها وجيشها أكبر هزيمة واكثرها إذلالا في القرن العشرين، هزيمة دفعت فيها أميركا مئات الآلاف من أرواح وجرحى ومعاقي جنودها. وخرج من تبقى منهم مهزومين مدحورين مبعثرين غير قادرين حتى على تنظيم انسحابهم الفوضوي. خرجوا غير قادرين أيضا، على تأمين مغادرة سفيرهم في سايغون معهم بشكل يحفظ له رمزية مركزه وتمثيله، حتى جاءته مروحية أميركية من عرض البحر تحمله من على سطح سفارته الى إحدى القطع البحرية. في تفصيلة للهزيمة تصلح ان تكون رمزا بحد ذاتها. جاءت الهزيمة النكراء على يد ثوار فيتنام المنظمين، الموحدين على قلب رجل واحد، في جبهة تضم كل تشكيلاتهم الاجتماعية والفكرية والسياسية والنضالية. يخوضون تحت لوائها نضالهم الوطني والعسكري التحرري الواحد، بقيادة واحدة وبرنامج واحد وسلاح واحد وتكتيك نضالي وعسكري واحد، وتحت علم واحد (وليس كرنفال أعلام يتوه ويهان فيه العلم الوطني).
يقومون بذلك كرأس حربة للشعب الفيتنامي في شماله المحرر وجنوبه المحتل والمنغمس بكليته في النضال التحرري، يدفع ثمن انغماسه من أرواح وأرزاق أبنائه ومن مقومات بلده الاقتصادية ومعالم تاريخها وحضارتها.
في ذلك الزمن – زمن النضال والانتصار – كان «هوشي منه» هو الأب المرشد المفكر الملهم والقائد للثوار، ولكل الشعب الفيتنامي في شمال البلاد وجنوبها، وكان الجنرال جياب هو القائد العسكري العام للثوار.
في ذلك الزمن، كانت حرب التحرير التي يخوضها شعب فيتنام ضد الاحتلال الأميركي ومن اجل حريته تحظى بتأييد كل شعوب الأرض وكل قواها التحررية والديمقراطية والإنسانية، بما في ذلك من داخل أميركا ذاتها. لكن جبهة تحريرهم وقيادتهم لم تكن يوما حكرا لاحد ولا منحازة ولا تابعة لاحد.
وفي ذلك الزمن، كانت دول المعسكر الاشتراكي تقدم لنضال الشعب الفيتنامي كل أشكال الدعم السياسي والمادي والعسكري والإعلامي. ويومها كانت كوريا الشمالية واحدة من تلك الدول بزعامة «كيم ايل سونج» جد زعيمها الحالي.
أما الدرس، فجاء من فشل الاجتماع.
فشل الاجتماع، لأن كوريا الشمالية ورئيسها لم تتجاوب مع الإرادة الأميركية، ولم تقبل بطلباتها وشروطها وإغراءاتها، ولا أذعنت لتهديداتها.
ليس المهم عناوين او تفاصيل القضايا التي تم الاختلاف حولها بين البلدين والرئيسين، ولا المهم معرفة صوابية وصحة تلك القضايا ولا الانحياز لأي من الطرفين في مواقفه وطلباته. وليس المهم معرفة الشروط والضمانات التي طالب بها كل طرف ولا أي تفاصيل أخرى، ولا من أي الطرفين جاءت. وليس ضروريا البحث في خلفيات كل طرف ولا مصادر قوته ولا التحالفات القارية والدولية التي يركن إليها.
الأهم، فهم واستيعاب الدرس الذي أعطاه فشل القمة: والدرس هو: انه يمكن فعلا لدولة او قوة مهما كان حجمها وإمكانياتها ان تقف في وجه الدولة الأميركية وجبروتها، ووجه رئيسها العدواني المتغطرس وعنفوانه. ويمكنها ان تقذف بوجهها ووجهه «لا» قوية وصريحة ومباشرة، إذا ما امتلكت إرادتها وامتلكت قرارها. ثم إذا ما امتلكت من وسائل القوة ما تستطيع به ان تلحق بها الأذى في أي مجال سياسي، اقتصادي، عسكري ولو في حدود الخرمشة.
ينشر بالاتفاق مع جريدة الأيام الفلسطينية