عبد السادة جبار
لم تنفك قضية الإيمان بوجود خالق وأمر الثواب والعقاب والجنة والنار تشغل بال البشرية بجميع تنوعاتها على مدى التاريخ منذ بدء الخليقة، وليس بوسع الإنسان إن يجمع كل التراث الإنساني من آداب وفنون وفكر الذي لم يزل محط جدال ونقاش مستعر ومستمر بشأن هذا الموضوع، كما إن السلوك الإنساني أصبح يتشكل على ضوء الفهم لهذه القضية الكبرى عبر الأفراد أو الجماعات تبعاً لما يصيب تلك القناعات أو العقائد من تفسير سليم أو انحرافات خطيرة، وبرغم التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي حققته البشرية والذي حسم الكثير من التصورات في فهم الكون وتفسير صيرورة الحياة، إلا انه لم يحسم موضوع الإيمان والإلحاد بشكل نهائي لصالح أحدهما على الإطلاق، على الرغم من الأدلة التي يوردها الطرفان والتي تبدو قاطعة للبعض إلا إن ثمة تساؤلات أخرى تجعل العقل المحايد في حالة من الشك من تلك الآراء لأي طرف، مما جعل البعض يتغاضى عن مناقشة هذه المعضلة لينشغل بتسيير حياته مراوغاً بين الحالتين وكأنه يمارس الحياد حرصاً على ضمان توازن في الكفتين. السينما العالمية لم يفتها هذا الموضوع وتكاد أن تكون أكثر تأثيراً في المشاهد لما يمتلكه هذا الفن من قدرة تصويرية في تجسيد الأفكار لتغدو كأنها حقائق مطلقة لا تقبل الدحض، في البدء تناولت هوليود مواضيع دينية مستلة من الكتب السماوية كما هي، إلا إن الحركات الطليعية في السينما العالمية نافست تلك الأعمال بأساليب تجديدية خرجت بها عن المألوف لتحرك في المشاهد القدرة على الجدل والتفكير بدلاً من التصوير المجرد للقصص المعروفة، وقد وجدت السينما إقبالاً وحاجة لدى المتفرج إلى تلك الأعمال في بداية الألفية الثالثة بسبب الخواء الروحي الذي اكتنف الحياة المعاصرة وفقدان الحافز الأخلاقي، وقد أدت هذه الصحوة في السينما الأميركية إلى جذب عدد كبير من الجمهور لتنعش شباك التذاكر في جمع ٳيرادات عالية للأفلام الدينيّة كما حدث عندما قدّم «ميل جيبسون» فيلم «آلام المسيح» عام 2004، فبالرغم من خروجه عن المألوف الذي خلّف ردود فعل متباينة، جنى الفيلم أكثر من 600 مليون دولار، ولسنا في معرض تحليل الأسباب الأساسية لهذه الظاهرة فالموضوع يحتاج إلى دراسة اجتماعية وسوسيولوجية تعتمد على بيانات وآراء مختصين، إلا إننا يمكن أن نخمن إن ذلك ناجم عن تأثيرات تصاعد انخراط مجموعات كبيرة نحو الاتجاهات الدينية وانتماء بعضها إلى فرق منظمة تمارس العمل السياسي ليتحول في بعض الأحيان إلى انتماءات مناهضة للمألوف، حيث تحاول السينما هنا أن تصحح الانحراف عبر طرح البدائل لتنبه وتحذر وتتصدى لأساليب العنف ومسببات الإرهاب، في هذا العام 2014 أنتجت مجموعة من الأفلام التي تتطرق إلى موضوع الدين والوجود الإلهي منها فيلم «الرب لم يمت» الذي تدور أحداثه بشأن طالب جامعي متديّن يجادل أستاذه حول وجود الله، وفيلم «ابن الرب» الذي يتناول حياة السيد المسيح، وفيلم «الخروج» عن حياة النبي (موسى) وهو نسخة جديدة من فيلم الوصايا العشر يخرجه «رايدلي سكوت» والفيلم ذو التكلفة العالية « نوح « للمخرج «دارين ارنوفسكي»، ومن بين هذه الأفلام فيلم «الجنة حقيقة « Heaven Is for Real، وهو فيلم اجتماعي يستند إلى قصة واقعية مستوحاة من الكتاب الأكثر مبيعاً من تأليف القسيس «تي. دي. جيكس» كتب السيناريو «كريس باركر» واخرجه «راندال والاس «.
قصة الفيلم
« تود بوربو» الممثل (جريج كينير) واعظ في إحدى كنائس ضاحية (امبريال ) وفي الوقت نفسه يعمل كفني ويزاول رياضة الركبي حيث يبدو كواعظ معاصر تساعده زوجته «سونيا بوربو» الممثلة (كيلي ريلي) حيث تدرب الأطفال على الأناشيد الكنسية إضافة لعملها، ولا يتردد تود في أن يقبل على أداء أي عمل إذ لا يفضل أن يكون عاطلاً كما يعتقد، وهو مثار إعجاب الجميع حيث يحضرون إلى الكنيسة ليستمعوا إلى وعظه مما يدفع مجلس المدينة للتمسك به حتى إصابته بكسر في ساقه في أثناء مشاركته في احدى مباريات الركبي ليحضر بديلاً له، إلا إن القداس كان فاتراً ليضطر فيما بعد ليعضهم وهو يستند على عكازتيه، لكن تغييراً مهماً هزّ الرجل حين مرض طفله « كولتون « فجأة ووصل حد الموت، إلا إنه شفي في اللحظات الأخيرة حيث لم يجد الأطباء تفسيراً لذلك وقد عدّ الناس هذا نوعاً من الإعجاز، إلا إن الطفل صوّر له تجربته في أثناء العملية حيث التقى السيد المسيح ورأى الجنة وانه كان يراقب الأطباء وهم يجرون لجسده العملية الجراحية، عدّ الأب ذلك ضرباً من تأثّره بما كان يحكيه له عن الجنة والسيد المسيح وهو تحت تأثير المخدر، غير إن الطفل حكى له عن مشاهدته له وهو يعاتب الرب بنوع من الانفعال وشاهد والدته وهي تهاتف الأصدقاء ليصلوا لأجله، وان وصفه للسيد المسيح كان مختلفاً عما شاهده في الرسوم المعروفة وانه رأى جده أيضاً ووصفه له بأنه كان بلا نظارات وفي عمر الشباب. أثار هذا الموضوع «تود» ودفعه لأن يبحث عبر استشارات علمية وحين قابل خبيرة نفسية ملحدة حاولت أن تفسر ذلك لأسباب لم يقتنع بها وبدت له إجاباتها قاصرة، لكنه لم يتردد في الإعلان عنه في الكنيسة مما خلق اضطراباً في المدينة وبعضهم حول الموضوع إلى سخرية كما إن الصحافة وجدت في الموضوع فرصة للاستثمار مما سبب إزعاجاً للزوجة التي وجدت زوجها مهتماً بالغيبيات أكثر من عمله والأسرة تعيش في ضائقة مالية خانقة، لكن رأيها قد تغير حين أعلمها كولتون بأنه التقى بأخته المجهضة في الجنة وعانقته مع إن الأم لم تخبر أحداً بهذا الموضوع على الإطلاق، تستمر تفاعلات الموضوع لتكشف عن أخطاء بعض المحيطين وتعترف إحدى أعضاء مجلس الكنيسة عن خطأها بعدم تصديقه ويعود مرة أخرى ليفسر الواقعة في الكنيسة وسط حشد كبير، بان الجنة موجودة بينهم في حياتهم وان ليس في الأمر معجزة وبخطبته التي حشد فيها قدرته الوعظية تمكن من الحصول على تأييد الجميع من دون اعتقادات خرافية أو اعجازية لتصبح الجنة حقيقة في الحياة وما بعد الحياة ومن خلال السلوك الإنساني.
المعالجة
اعتمد والاس في إخراج الفيلم على أصل القصة ويبدو انه كان حريصاً على الأحداث الواقعية ولم يلجأ إلى الأساليب الفنتازية في السينما ليثير الانتباه ويحقق التشويق بل صور القصة بطريقة بسيطة واعتيادية ومن خلال إحساس الطفل في سرد ما مر به من دون مبالغة ولم يظهر الطفل كأنه يملك مواهب خاصة واستثنائية فوق الطبيعية، على العكس كان يتصرف أيضاً كطفل بعمر أربع سنوات يروي ما شاهده ثم ينصرف لألعابه، وبالرغم من عدم خلو الفيلم من الشحنات العاطفية، إلا إن ولاس اهتم بالمناقشات التي دارت بين «تود» والآخرين، وفي الواقع كانت حوارات بسيطة وسهلة لكنها مقنعة تماماً في تفسير وجهات النظر، حرص أيضاً على تصوير الأمكنة بلقطات طويلة ليجسد فكرة الجنة الأرضية من خلال المزارع وامتدادات الأرض وحركات الأطفال والزهور الطبيعية وحتى مشهد المقبرة ومسرحية الأطفال وأداؤهم للأناشيد الكنسية. تكلفة الفيلم 12 مليون دولار، وحصد 21.5 مليون دولار في عطلة عيد القيامة في دور العرض بالولايات المتحدة وكندا، وحل في المركز الثالث ضمن قائمة أقوى الأفلام في شباك التذاكر.
فيلم Heaven Is for Real، تمثيل : جريج كينير ، كيلي ريلي، أخراج : راندال والاس