مسجد في ميونيخ

النازيون.. وكالة الاستخبارات المركزية وبزوغ نجم “الإخوان المسلمين” في الغرب

لا يشير عنوان الكتاب الى ما يتضمنه وهو عنوان خادع للوهلة الأولى ويبدو وكأنه فصلا عن بناء مسجد، ولكن الحقيقة أن الكتاب وثيقة مهمة ومفصلة عن حركة أو أسس تشكيل ما يعرف بالأخوان المسلمين وهم مجموعة سياسيية أصولية تتبنى صيغة خطرة عن الإسلام ولعبت أدوارا مفصلية في حياة وسياسات الشرق الأوسط برمته ابتداء من مصر وانتهاء بالعراق وسوريا والأردن والمملكة العربية السعودية ودول الخليج كلها . ولعل أبرز ما شكلته هذه الحركة قضيتين محوريتين استندت اليها دول المنطقة في ناحيتين أولهما : معاداة الشيوعية في المنطقة ومحاربتها عبر وسائل ترتكز على العنف والنضال الشرس في البلدان التي تسربت اليها تعاليمها . أما الناحية الثانية فهي ارتكزت وانتعشت من خلال المساعي الغربية خلال الحرب الباردة والتي تعمل بنشاط حتى بعد سقوط الحلم الشيوعي وانهيار الكتلة السوفيتية عام 1988.
والكتاب يفصل بطريقة مدهشة كيف أنها عملت بالتنسيق مع دول الغرب لمساندتها في مواجهة الشيوعية وقبلها العمل مع جميع الدول التي نشطت في مواجهة الحرب العالمية الثانية . ومن المثير للدهشة كيف أنها تعاونت مع النازيين أولاً ودعمت جهودهم في تشكيل فيالق من الناشطين من الدول العربية وعملت على تدريب تلك الفيالق على السلاح . ولكن عملها ، سيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، لم يقتصر أو ينحصر في عملها مع النازيين بل ذهب أبعد من ذلك العمل مع المخابرات المركزية الأميركية والمخابرات الألمانية والغربية عموماً.
وسيجد القارئ بين يديه في الكتاب الذي تنشره الصباح الجديد كيف أنها مع هذا التعاون تلونت بمكر هائل لتتحول في فترات متأخرة الى التشنيع على التيارات الليبرالية في المنطقة ووصمتها بالتجسس لصالح الغرب والمخابرات المركزية الأميركية، بل كل التيارات التنويرية التي نهضت في منطقتنا في أثناء النضال لتمدين المنطقة وتحويلها الى دول متينة ترتكز على الديمقراطية السياسية.
وتعد حركة الإخوان المسلمين بتقسيم العالم الإسلامي والعربي الى ما تصفه بـ ” الفسطاطين ” فسطاط كافر ينكر الخلافة الإسلامية كما جسدها الوجود العثماني الذي استعمر العرب لنحو أربعمئة سنة ويعد ان الهدف الأساسي للاخوان هو العودة الى عالم الخلافة بكل الوسائل بما في ذلك العنف وتأسيس المنظمات السرية . ومن هنا جاءت محاولاتها المتكررة في تشكيل التنظيمات المسلحة والقيام بالاغتيالات لزعماء المنطقة . وفسطاط آخر هو فسطاط المؤمنين وفي مقدمتهم حركة الإخوان المسلمين.

الحلقة 19

تأليف: إين جونسون

ترجمة: أحمد جمال أبو الليل

تلك الطائفة التي أطلقت صحيفة “فرانكفورتر ألغماينه” Frankfurter Allgemeine (1952) على الواحد من أفرادها لفظة “رجل المعسكر” homo barrackensis – أي ذلك الذي كتب عليه أن يحيا في داخل المعسكرات . و كان أفراد تلك الطائفة – في مجملهم – من المسلمين . ففي زيارة لاأحد الباحثين الإجتماعيين لمائتي ألباني في ضاحية “أوتوبرون” بجنوب ميونيخ ، أورد الباحث أنهم كانو يحيون حياة قاسية … إذ كان يتقاسم الثمانية غرفة واحدة بلا كهرباء ، و حيث كان المصدر الوحيد للمياه يبعد مسيرة ستمائة متر على الأقدام ، فضلاً عن إصابة العديد من الأطفال هناك بالسل … بل كانت هناك لافتة مثبتة على المبنى من الخارج كتب عليها : “المبنى مهدم … دخول المرء على مسئوليته الشخصية” .
بيد أن مسلمي ميونيخ لم يكونوا جميعهم يحيون وفقاً لتلك الشاكلة. إذ كان كثير منهم يملكون سكناً و يعملون بمشاريع ، أو كانوا قد إلتحقوا بالعمل “باللجنة الاميركية” … إلا أن الكثير – أيضاً – كانوا بحاجة إلى المساعدة … و التي جاءت على يد “إبراهيم كوجا أوغلو” … و هو إمام فظ على اللسان ، لكنه مؤتمن أمين . ففي أثناء الحرب الكونية الثانية، كان “كوجا أوغلو” زعيماً إسلامياً موثوقاً . أما مولده فكان في عام 1903 بشمال القوقاز … ذلك الزعيم الذي إتسم بولاء شديد للألمان . لقد كان معظم الجنود المسلمين الذين إنخرطوا في صفوف الألمان يتسمون بحداثة السن، غذ كان معظمهم لم يبلغ العشرين بعد … فيما كان “كوجا أوغلو” يكبرهم كثيراً بما يجعله بمنزلة الأب فيهم … كذا، فقد كان بسيطاً ذا تعليم محدود ، و من ثم لجوؤه إلى الأصدقاء ليكتبوا له رسائله . و كان “الرجل” تقياً و رعاً أكسبه كبر سنه تبجيلاً و مهابة .
هذا ، و قد أسس “كوجا أوغلو”، عام 1953 ، جماعة دينية اسمها “الإسلام – الجماعة الدينية الإسلامية في غرب أوروبا” ، كان الهدف منها الحفاظ على “الدين” و تعاليمه لدى المسلمين الذين قدر عددهم بنحو ثلاثة آلاف و كانوا ما يزالون يحبون – آنذاك – في مخيمات “المرحلين” بألمانيا . وحين عمد “كوجا أوغلو” إلى تأسيس جماعته … أعلن أن هدفه هو الحيلولة دون أن يفقد الجنود المسلمين ولاءهم لألمانيا … فالمخيمات كانت قذرة للغاية إلى الحد الذي يدفع كثيراً من أولئك “المرحلين” إلى العودة ثانيةً إلى السوفييت .
أم “فون منده” ، فقد ساند جماعة “كوجا أوغلو” الوليدة في بادىء الأمر … إلا أنه ، ولأسباب غير واضحة ، قد أبعد نفسه عنها سريعاً . هذا ، و قد يكون السبب راجعاً إلى كون “كوجا أوغلو” فظاً غير محنك بما لا يجعله أهلاً لقيادة مسلمي ميونيخ ، أو أن “فون منده” لم يكن ، حينها ، قد أدرك بعد أهمية “الإسلام” سلاحاً في خضم “الحرب الباردة” الدائرة ، آنذاك ، – و بالرغم من ان “فون منده” قد ساعد العديد من المسلمين ، إلا أن جهوده في هذا الإطار قد جاءت جزءاً من جهود أعم لخدمة “اللاجئين” كافة . أو لعل المسئولين الأمريكيين كانوا قد أعطوا “كوجا أوغلو” قدراً أكبر من الأموال ، و كانوا الأقرب إليه … إذ كان “فون منده” يحيا ، آنذاك ، في “دوسلدوف” … فيما كان مقر أمكومليب يقع في ميونيخ حيث كان “كوجا أوغلو” . و في غضون عامين إثنين ، كان “كوجا أوغلو” يتولى الإشراف على توزيع “وجبات” الطعام التي كانت منظمة العون الإنساني الاميركية CARE تقوم بحزمها في عبوات … حيث ذكر بعض المسلمين أنه كان يتلقى تلك “العبوات” من القنصلية الاميركية في ميونيخ . كذا ، فقد كان “كوجا أوغلو” يتولى الإشراف على توزيع بعض السلع الواردة من “مؤسسة تولستوي” ، و التي ورد ذكرها آنفاً (راجع الفصل الرابع). و بحلول عام 1955 ، كانت أمكومليب تمول “كوجا أوغلو” مباشرة ، إذ قامت بتمويل الإحتفال بعيد الأضحى … ذلك الإحتفال الذي أقيم في المتحف الألماني (و هو متحف التقنية و العلوم في ميونيخ) دي المبنى المقام على غرار الكهوف … ذلك المتحف الذي ضم محتويات كانت و كأنها جوقة تسبح بحمد العبقرية الألمانية في العلم و الصناعة . هذا ، وقد عمد ” كوجا أوغلو” إلى توجيه الدعوة للإحتفال بتلك المناسبة إلى العديد من المسلمين … ذلك الحدث الذي جذب إهتمام “الميديا” المحلية .
و كان “كوجا اوغلو” صيداً ثميناً … ذلك القوقازي الذي لقى دعماً قوياً من زميل شيشاني كان معلماً بمدرسة وكالة الإستخبارات المركزية ببافاريا . و قد كان “لكوجا أوغلو” مريدين كثر ، إذ حظى بشعبية جارفة لقاء أعماله الخيرية … تلك التي أورد إحداها “ألكسندر ميلبارديس” ، و الذي كان ، آنذاك ، نائباً لرئيس شؤون اللاجئين بأمكومليب ، إذ ذكر أن “كوجا أوغلو” قد هاتفَهُ – ذات مرة – في الرابعة فجراً حيث ناشده بأن يوافيه بعربته ليحمله لزيارة رجل يحتضر خارج ميونيخ . و قد أ‘خِذ “ميلبارديس” بوفاء “كوجا أولو” ، فوثب في العربية ليحمله عبر رحلة إستغرقت ساعتين إلى قرية ذلك المحتضر . “لقد تولى كوجا أولو الإشراف على طقوس تجهيز الميت – حقاً كم كان دمثاً خلوقاً” … كلمات فاه بها “ميلبارديس” مكبراً شأن الرجل .
و سرعان ما أضحت قدما “كوجا أوغلو” راسختين في المعسكر الأميركي . ووفقاً لميلبارديس ، فقد كان ثمنه منفعه متبادلة بين الأميركيين و “كوجا أوغلو” الذي قام بعمل “دعاية” لمصلحتهم . إذا … فقد صار للولايات المتحدة رجل بمقدوره قيادة مسلمي ميونيخ – كأنما كمعادل لأولئك المسلمين الذين يوظفهم السوفييت لتتساوى كفتا الميزان . إلا أنه كان ثمة حماقة بشأن ذلك الجهد المبذول … موسكو قد بسطت نفوذها على ملايين القازاق و القيرغيز و التتر و الأذربيجانيين ، أما “بون” و “واشنطن” ، فيمكنهما ازعمخ – في أحسن الأحول – بخضوع مئات أو آلاف قليلة في ميونيخ تحت سيطرتهما . إلا أن الأمر الأكثر أهمية – في عصر “الميديا” هذا – كان وجود متحدث بلسان المسلمين يمكنه حضور موسم الحج ، أو أن يكون ممثلاً بمؤتمر أو بآخر معلناً نفسه زعيماً مسلماً ينتمي إلى الغرب يعيد الحريات و ينتقد القمع السوفييتي للمسلمين . لقد كان “كوجا أوغلو” موضع ثقة الكثيرين بما له من أتباع و مريدين في ميونيخ … حيث تقاطر الآلاف للإنضمام إلى عضوية جماعته الدينية .
هذا ، و قد يكون “كوجا أوغلو” موضع إحترام بمقدوره التواصل مع المسلمين في “المعسكرات” ، و لكن يبقى سؤال : ” هل كان الرجل يملك سلطة تتيح له تمثيل “المسلمين الغربيين” على نحو موثوق في المحافل الدولية ؟ و هل كان بإمكانه التحدث بإسمهم و مهاجمة الإتحاد السوفييتي ؟ … لقد كان العاملون بأمكومليب بنيويورك تخامرهم شكوك في هذا الصدد … لذا ، فقد شرعوا يبحثون عن بدائل أخرى – كالبحث عن رجل سريع ألمعي ذي “كاريزما” طاغية و حضور آسر … رجل يمكنه ان ينشط في خضم حروب البروباغندا المحمومة تلك .
بادئ الأمر لم يكن “روبرت دريهر” ذا كبير نفعٍ للمسلمين … و لكن بحلول أوآخر الخمسينيات سيصبح الرجل الأكثر إرتباطاً بزرعهم في ميونيخ ، إذ أضحى يشتهر بذلك . أما في بداية عقد الخمسينيات ، فقد كان “دريهر” عاشقاً لكل ما هو روسي … إذ كان يجد متعة بالغة في مناحي الثقافة الروسية التي تتوافق و إهتماماته . إن “دريهر” ، ذلك الوسيم طويل القامة ، قد إنضم إلى أمكومليب ليتمكن من العودة إلى ألمانيا مستدعياً أوقاتاً هنيئة أمضاها هناك كأحد رجال وكالة الإستخبارات المركزية . لقد كان بمقدور “دريهر” ، عاشق الفودكا و متحدث الروسية ، أن يُجاري أياً من أصدقائه الحميمين في الرقص . فماذا عن “الإسلام” ؟ …. كان “دريهر” – شأنه في ذلك شأن غالبية العاملين بأمكومليب – لا يدري كنه “للإسلام” .
إلا أنه سرعان ما ستتبدل الحال ، و ذلك بفضل تأثير واحد من زملائه يُدعى “برتيل غيريك كونيهولم” الذي كان يفضل “دريهر” مركزاً و خيرة ، كذا فقد كان أكثر تأثيراً و أمضى وقعاً .لقد كان “كونيهولم” يترأس جناح “أمكومليب” السياسي ، و هو ثالث ثلاثة أفرع لعملياتها ، بخلاف “محطة الراديو” و “المعهد” . أما إدارة العمليات السياسية ، فكانت تتولى الإشراف على جهود أمكومليب المبذولة في مجال الدعاية المستترة ، و التي كانت موجهة – باطراد – إلى المسلمين على امتداد المعمورة بأسرها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة