الجزء الاول
د.ثائر العذاري
نشرت الصباح الجديد في ٢٣/١/٢٠١٩ مقالا للدكتورة نادية هناوي بعنوان (متوالية القصة القصيرة بوصفها كتابا مفتوحا عند روبرت شولز) وهو واحد من مجموعة مقالات كتبتها في الموضوع نفسه كانت كلها مكرسة للرد على ما أطرحه منذ عام ٢٠١١ حول المتوالية القصصية حيث تبنيت الموضوع وصببت اهتمامي البحثي عليه. ومن يقرأ مقالات الدكتورة يشعر بوضوح تحول الموضوع عندها من قضية علمية إلى تعمد الإساءة الشخصية، فتشحن المقال بكلمات مثل الجهل والوهم والفذلكة والإدعاء بل قالت في بعض مقالاتها جناية وجريمة، ووصل الأمر أن تختتم أحد مقالاتها ببيت عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ويبدو أنها قررت فعلا تطبيق مقولة التغلبي لأني أثق أن الدكتورة هناوي ناقدة مطلعة ومتابعة وعندما تقع في أوهام وخلط بين المصطلحات فلا أفهم هذا إلا على أنها أرادت أن (تجهل فوق جهل الجاهلينا).
وفي هذا المقال أحاول الرد على كل الملابسات التي وقعت فيها د.هناوي وبعضها افتراءات علي ما كنت لأدعيها يوما.
أولا: قضية الريادة:
بدأت حملة د.هناوي بمقال نشر في ثقافية المدى في ٢٤/٧/٢٠١٧ عنونته (توريطات نقدية)، وكانت قضيتها فيه أن ثائر العذاري قال في ندوة في اتحاد الأدباء إن المصريين هم رواد المتوالية القصصية، علما انها لم تكن حاضرة في الندوة المذكورة، لكن حسن حظي أن الندوة موجودة فيديويا على قناة الاتحاد في يوتيوب، وهذا أول افتراء علي لأني لم أقل أبدا هذا الكلام بل قلت إن المصريين أكثر من كتب في هذا الجنس الأدبي وهذا صحيح. لقد وصل الأمر حد التشكيك بالوطنية، فالدكتورة تعيد نشر مقالاتها في موقع الناقد العراقي على الانترنت مصدرا بعبارة خطيرة تتهمني بالمازوخية والخيانة الوطنية، وتحيي الدكتورة هناوي على وطنيتها بذات الأسلوب الذي تستعمله الأنظمة الدكتاتورية لإرهاب المثقفين.
وفي مقالات أخرى ومنها مقال الصباح الجديد الأخير تتهمني بأني أطلب السبق بادعائي اجتراح مصطلح المتوالية القصصية، وهذا افتراء آخر، فكل ما كتبت موجود في الصحف ومواقعها على الانترنت، وأنا مسؤول عن كل كلمة كتبتها لكني لست مسؤولا عما يفترى علي فأنا لم أدع هذا في أي مقال لي، لأن المصطلح متداول في النقد الأمريكي منذ الثلاثينيات من القرن الماضي. لكن هذا لا ينفي أني ربما أكون أول دارس عربي يكتب وصفا نظريا دقيقا لهذا النوع من السرد على أنه ليس من ابتكاري بل هو تحصيلي مما قرأت في الموضوع بلغات أجنبية.
هنا لابد لي من ذكر الأستاذ جاسم عاصي الذي أكن لتجربته كل التقدير واعترف له بالسبق في استعمال المصطلح، ولكن يبدو لي أننا نختلف في دلالته، فالمتوالية القصصية ليست قصتين تنشران في عددين مختلفين من مجلة بل لابد أن تكون مجموعة قصص مترابطة ضمتها دفتا كتاب لتكون مشروعا واحدا ومما يعزز ظني بأننا نختلف في فهمنا لدلالة مصطلح المتوالية القصصية في مقاله الذي نشره في ثقافية المدى يوم ٢١/٨/٢٠١٨ حيث نصحني بتتبع الموضوع ورأى أني مخطئ حين أعد مجموعة الكرسي لطالب الرفاعي والمفعاة لحامد فاضل متواليات قصصية مع أنها كذلك بحسب المفهوم الذي عرفت به المتوالية القصصية في المراجع الأمريكية المعنية كما سأوضح لاحقا.
وفي مقال للدكتورة هناوي نشر في ثقافية المدى في٢٣/٧/٢٠١٧ بعنوان (السبق النقدي في اجتراح مفهوم المتوالية القصصية)، قالت بعد عبارات الردح والشتائم كما في كل مقالاتها في الموضوع؛ «وتقودنا عملية البحث عن المنابت والجذور الى عدّ ارنست همنغواي اوّل من اشتغل على هذا التكنيك القصصي في قصته (في زماننا) التي بنيت على شكل متوالية سردية مؤلفة من ثماني عشرة قصة قصيرة.» وهذا خطأ تاريخي كبير، علما أني لا أدعي أن على دارس الأدب أن يعرف كل شيء فهذا مستحيل، لكن من يكتب في موضوع محدد ينبغي أن يلم به، فهمنجوي ليس رائدا بل مقلدا، والموضوع أعمق مما تتصور د.هناوي يعيده بعض الدارسين إلى الأساطير اليونانية كما يرى إنجرام لكن أول متوالية قصصية بالمفهوم النظري هي Dubliners لجيمس جويس ١٩١٤ التي ترجمت إلى العربية بعنوان أهالي دبلن وكتب المترجم على غلافها كلمة رواية خطأ، لكن الأهم منها كتاب القاص الأمريكي شيروود أندرسون Winesburg Ohio الصادر عام ١٩١٩ ويعده كل من كتب عن المتوالية القصصية النموذج الناضج الأول، أما كتيب همنجوي فقد صدر عام ١٩٢٥.
ثانيا: قضية التجنيس
تعترض الدكتورة هناوي على كون المتوالية القصصية جنسا سرديا وترى أنها محض تقنية أو تقانة كما تسميها هي، وتملأ مقالاتها بنصوص مترجمة متناقضة ولا علاقة لها أصلا بالموضوع، ومقالها الأخير في الصباح الجديد مثال على هذا، فقد أوردت الدكتورة هناوي عناوين كتب لو أنها تأملتها فقط حتى من غير أن تقرأها لاستدلت على تناقض كلامها فأحد الكتب هو كتاب فورست إنجرام المؤسس في دراسة المتوالية القصصية وعنوانه (حلقة القصة القصيرة، دراسات في نوع أدبي)، ولا يفوت على القارئ الكريم دلالة العنوان على أن إنجرام عد المتوالية القصصية ابتداء من العنوان نوعا أدبيا في كتابه هذا الصادر عام ١٩٧١.
وذكرت كتاب (حلقة القصة القصيرة، دليل النوع ومرشد المراجع)، وعنوان الكتاب بالانكليزية (The short story cycle : a genre companion and reference guide) ومعلوم عند المختصين ان كلمة companion تستعمل في عناوين الكتب المنهجية وهذا الكتاب منها حيث وضعته مؤلفته سوزان جارلند مان لتعريف الطلبة بجنس أدبي قلما اهتم به الباحثون كما تقول في المقدمة، فضلا عن عبارة دليل النوع الأدبي التي كتبتها د.هناوي وتجاهلت دلالتها.
وحاولت إيجاز أفكار روبرت لوشار لكنها لم تدلنا على موطن إنكاره لكون المتوالية القصصية جنسا أدبيا، وهذا هو التمحل، فلوشار منذ ١٩٨٩ كتب عدة أبحاث في الموضوع حتى صار مختصا به، ومر أثناء ذلك بعدة تغييرات في موقفه كان آخرها تنازله عن مصطلح المتوالية القصصية وتبنية مصطلح إنجرام حلقة القصة القصيرة، وكانت قضيته الرئيسة في عمله إثبات أن هذا الجنس الأدبي تولد من القصة لا من الرواية كما يرى بعض النقاد.
ويأتي اعتراض الدكتورة نادية على عد المتوالية القصصية جنسا أدبيا من مقولة انعدام الجنس النقي وهي مقولة صحيحة فالأجناس تتداخل وتتقاطع، لكن هذا لا يعني إلغاء عملية التجنيس تقول في مقالها:» هذا افتراضٌ على سبيلِ التصورِ طبعًا، وليس على سبيل التحققِ، لأنَّ القولَ بالنوعِ أصبح خارج إطار تطور المواضعاتِ المنطقيةِ التي وصلتْ إليها عمليةُ صناعةُ المصطلحاتِ اليوم، وأهمُّ تلكَ المواضعاتِ أنّها لمْ تعدْ تخوضُ في مسائلِ اجتراحِ أنواعٍ أدبيةٍ مستقلةٍ وثابتةٍ. فلقد مضى القولُ بالنوعِ منذ أنْ غابَ الحاضنُ النظريّ وتلاشى التمظهرُ الجماعيّ، وبذلك تبطل مشروعية أية دعوى تنادي بالنوع الأدبي. وأمّا من يخوضُ في مسألة اجتراحِ نوعٍ فذلك ليس متأخراً عن ركبِ التحديثِ الاصطلاحي، غيرَ مواكبٍ للتطورات النقدية ما بعد الحداثية حسب، بل هو واقعٌ في التجني العلمي، متوهمٌ أنه صاحبُ براءةَ اختراعِ».
لا أريد هنا الرد على الإساءة الشخصية والسخرية بقدر ما أريد أن أبين أن القول بعدم الخوض في قضايا التجنيس في الدراسات الحديثة غير صحيح، لأنه يعني ألا نستعمل بعد مقال الدكتورة هناوي كلمات مثل رواية قصة قصيدة مقالة مسرحية وغيرها ونعتبر النصوص الأدبية جنسا واحدا وهذا يهدم كل ما كتبته الدكتورة نفسها فما من مقالة لها لم تستعمل فيها مشيرات تجنيسية. بل إن تودوروف الذي كثيرا ما تعتمد د.هناوي مقولاته يرى «إن مفهوم النوع مفهوم جوهري…ولابد أن نسعى أولا إلى تحديده وتوضيحه.» وهذه العبارة وردت في صدر بحثه في كتاب د.خيري دومة الذي أشارت إليه الدكتورة في مقالها.
توقعنا الدكتورة هناوي في إشكال كبير حين تقول في مقال لها في جريدة القدس العربي يوم ٢٥/٤/٢٠١٨ «ووفقا لنظرية الأجناس الأدبية ومغالطتها لنظرية الأنواع تكون المتوالية السردية تقانة فنية لا يتعدى التعاطي معها بنية المسرود التي تتحدد في الأحداث وكيفية ترتيب الأفعال فيها، وفق سلسلة أو طريقة يُراعى فيها عامل الزمن كما تؤخذ السببية بنظر الاعتبار.». فعلى الرغم من غموض العبارة وغرابة الاستنتاج توهمنا د. نادية أن هناك نظرية أجناس وهناك نظرية أنواع. وكلمتا النوع والجنس من الكلمات الملتبسة في الكتابات العربية، فمن يقول نوع يقصد أيضا جنس والعكس صحيح. وحين نقرأ بالانكليزية مثلا فإن هناك كلمة واحدة هي genre يترجمها المترجمون مرة جنس وأخرى نوع والحق أن هناك نظرية أجناس مرت بمراحل منذ أرسطو إلى الآن فأصبح بإمكاننا أن نقول نظرية الأجناس القديمة أو الحديثة. فضلا عن أن العبارة تنطوي على مغالطة كبيرة سببها الترجمة كما سأبين لاحقا في هذا المقال.
وإذا كانت عملية التجنيس قد أصبحت تخلفا ولم يعد النقد مهتما بها كما تقول فكيف تنشر جامعة عريقة مثل أدنبرة عام ٢٠١٨ كتابا لأستاذة فيها مختصة بالمتوالية القصصية هي حنيفر سميث قصرت الفصل الأخير منه على تحديد مزايا الجنس الأدبي المسمى حلقة القصة القصيرة! فضلا عن أن هناك أساتذة كبار في العالم يدرسون المتوالية في فصل دراسي كامل لطلبة الدراسات العليا بوصفها جنسا سرديا منهم د.مرسيدس جارثيا التي تفعل هذا في جامعة سالامانكا الإسبانية، وقد أخبرني الصديق د.خيري دومة أنه يفعل الأمر نفسه في جامعة القاهرة منذ عام ٢٠٠٨ وأن عددا من طلبته استقوا موضوعات رسائلهم من هذا الفصل الدراسي. وبهذا يصبح الدكتور دومة شريكي في الجناية التي اتهمتنا بها د.هناوي.