حفريات في الذاكرة العراقية

(دراسات تاريخية)
من الكتب المهمة التي ألفتها الدكتورة أنعام مهدي علي السلمان في قمة نضجها الفكري، فقد كتبته بعد عام (2003)، تناولت فيه موضوعات جديدة تخص تبلور الذاكرة العراقية بموضوعات عن المرأة العراقية ودورها البنيوي في المجتمع العراقي مثل: صبيحة الشيخ داود ودور الكرد في المشهد السياسي العراقي، والنشاط السياسي الحزبي في آواخر العهد الملكي، وتداعيات بدايات العهد الجمهوري والصراع بين الملكيين والجمهوريين ممثلة في نشاط السياسي المخضرم رشيد عالي الكيلاني وغيرها من الموضوعات المهمة والشيقة، والتي تجمع بين الابعاد التاريخية والسوسيولوجية والفكرية، وتسهم في تشكيل الذاكرة الجمعية العراقية بأبعادها المتنوعة، فهي حفريات في الذاكرة بقراءات تاريخية جديدة تبتعد عن القوالب القديمة التي نحتت تاريخنا ببعده السياسي واهملت الجوانب الأخرى الاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي تتجاوز أهميتها الجانب السياسي في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
تقدم “الصباح الجديد” بين يدي القارئ مختارات من فصول هذا الكتب آلا وهو “حفريات في الذاكرة العراقية…دراسات تاريخية” في حلقات عدة لما له من قيمة كبيرة وممتعة في الوقت نفسه لكونه يتناول موضوعات ذات أبعاد اجتماعية وفكرية تخص النخب العراقية التي تعد عاملا أساسيا في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
الحلقة 9

أ.د. أنعام مهدي علي السلمان

بعد مدة وجيزة الغى عبد السلام المجلس الوطني لقيادة الثورة واجرى تعديلات على الدستور المؤقت ،واصدر قانون مجلس الدفاع الوطني رقم 138لسنة 1965 ، ثم اعقبه تشكيل مجلس للدفاع الوطني يرأسه رئيس الجمهورية ونائبه رئيس الوزراء وصدر بذلك مرسوم جمهوري في 11 ايلول 1965 .
وعلى الرغم من ان هذه الوزارة كانت اول تداول سامي للسلطة منذ ثورة 14 تموز 1958 ،الا ان عارف عبد الرزاق ترك تصريف امور الوزارة الى نائبه ووزير خارجيته عبد الرحمن البزاز.
تسنى لعارف عبد الرزاق تنفيذ الانقلاب بعد عشرة ايام من استلامه المنصب ، وكان هدفه التخلص من عبد السلام قبل ان يتخلص منه ومن بعضالضباط خارج بغداد منهم عرفان عبد القادر وجدي امر الكلية العسكرية ،وحينما استشار جماعته عارضوه بشدة لان موافقته ستؤدي الى اخلاء بغداد من انصارهم من الضباط وسيجعل تنفيذ حركة ضد عبد السلام أمراً مستحيلاً .وكان امام عارف عبد الرزاق خيارين أما ان يساير عبد السلام ويكسب ثقته حتى يتخلص منه بعد ان اتفق مع سعيد صلبيى على الصبر لمدة ثلاثة اشهرلتصحيح مساره واذا لم يفعل سينظم سعيد صلبيى الى عارف عبد الرزاق للاطاحة به، اما الخيار الثاني الذي امامه فهو ان يستغل الفرصة للانقضاض عليه في اقرب فرصة .وقد تهيأ الامر ،حينما دعىعبد السلام عارف الى المغرب لترؤس وفد العراق الى القمة العربية الثالثة في الدار البيضاء ، لذا سافر يوم 12 ايلول يرافقه نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية عبد الرحمن البزاز ، وتولى السلطة بالنيابة مجلس مكون من رئيس الوزراء ورئيس اركان الجيش وكالة.وعلى الرغم من أن عبد السلام قد اصدر قبل سفره تعليمات بمراقبة تحركات رئيس الوزراء وهو ما اكده تقرير للسفارة البريطانية ، الا ان عارف عبد الرزاق نجح ، كما يبدو ، من الافلات من المراقبة ليقوم بمحاولته الانقلابية الاولى والتي كان واثقاً من نجاحها مائة بالمائة لا سيما وان الاوضاع في العراق كانت مرتبكة بسبب الحركة الكردية التي اشتدت في حينها ضد الحكومة المركزية ، فضلاً عن تشجيع الضباط القوميين لعارف عبد الرزاق للقيام بأنقلاب ضد عبد السلام ،لكن محاولته فشلت بتدخل من سعيد صلبيى رغم ان كان هو الأخر متذمراً من سياسة عبد السلام الخاطئة في ادارةدفة البلاد وقرارته غير المدروسة.
وبهذا الصدد يشير عارف عبد الرزاق الى انه كان يفكر بعزل عبد السلام قبل اذار 1964 ،ثم فكر في الانقلاب مرة ثانيةفي اذار 1965 عندما اراد عبد السلام ضرب الحركة الكردية لانه كان غير راض عن الطريقة المستخدمة لقمعها ، ثم اقترح على تنظيم الضباط القوميين ان يستعد للانقلاب ضد عبد السلام اثناء تنقل بعض القطعات من الجنوب الى الشمال ،حين تتوقف في بغداد وبذلك ستكون القوة موازية للقوات الموالية لعبد السلام ،لكن بعض الضباط لم يؤيدوا مقترحاته .كانت خطة الانقلاب التي وضعها كل من العميد الركن محمد مجيد امر كلية اركان،والعقيد الركن هادي خماس مدير الاستخبارات العسكرية، والمقدمة الركن صبحي عبد الحميد على قدر من السهولة والبساطة تتلخص في اعداد مظاهرة سلفاً من قبل الضباط القوميين تقوم بها نقابات العمال والمعلمين ، تنطلق في نفس اليوم الذي يسافر فيه عبد السلام عارف تطالب باعلان الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة .ثم وضع الوحدات العسكرية في بغداد في حالة انذار بحجة سفر الرئيس والمحافظة على النظام وذلك يوم 15 ايلول ،ثم يدعو عارف عبد الرزاق لعقد مؤتمر عام يحضره بنفسه ومعه صبحي عبد الحميد وسعيد صلبيى آمر موقع بغداد وآمر الانظباط العسكري كذلك بشير الطالب آمر الحرس الجمهوري وهادي خماس مدير الاستخبارات العسكرية ورشيد محسن الجميلي مدير الامن العام ومحمد مجيد آمر كلية الاركان وعرفان عبد القادر وجدي آمر الكلية العسكرية وحميد عبد القادر السامرائي مدير الشرطة العام ، وكانت الحجة في عقد المؤتمر وضع الخطة دخول بعض الضباط القوميين أثناء عقد المؤتمر لاعتقال المؤيدين لعبد السلام وهم سعيد صلبيى وبشير الطالب وحميد عبد القادر السامرائي .
وان يقوم الرئد عبد الامير الربيعي آمر متيبة الدبابات في معسكر ابى غريب بالسيطرة على المعسكر بعد انذار الوحدات المؤيدة للانقلاب في بغداد. بعد ذلك يتوجه عارف عبد الرزاق الى مبنى الاذاعة حيث يعلن تنحية عبد السلام ، والغاء منصب رئيس الجمهورية وتشكيل المجلس الوطني لقيادة.
الثورة وتاليف وزارة من العناصر القومية . ثم يطالبون الرئيس جمال عبد النصر تحقيق الوحدة الفورية بناء على طلب الشعب العراقي.
لكن عارف عبد الرزاق سرعان ما استبدل خطته الانفة الذكر بخطة ثانية تضمنت بعض التغيرات منها تقديم الموعد مدة وجيزة عن الموعد السابق اذ جعل موعد التنفيذ ليلة 14/15 ايلول وليس الساعة1200 من يوم 15 ايلول 1965 ،وان يتم الاستيلاءعلى معسكر ابي غريب من قبل الرائد عبد الامير الربيعي والنقيب مبدر الويس ويلتحق بهما صبحي عبد الحميد ومحمد مجيد وعدنان ايوب صبري ، وتستخدم الدبابات التي يتم الاستيلاء عليها من معسكرابي غريب في التقدم للاستيلاء على اذاعة بغداد والمراكز المهمة فيها .اما القوة الجوية التي فيها الكثير من الموالين لعارف عبد الرزاق فقد تقرر ان تلق طائراتها في سماء بغداد ،على ان يتولى عارف عبد الرزاق وهادي خماس ورشيد محسن الجميلي قيادة العملية من المجليس الوطني قرب القصر الجمهوري . وفي قناعتنا ان التغيير في توقيت ومسار الحركة قد ادى الى فشلها بعد ذلك.
وهو ما اشار اليه صبحي عبد الحميد الذي اكد بان الخطة التي وضعت لاول مرة قد وصلت الى المكلفين بها وانه قد فوجئ بالتغييرات التي حصلت ،ولما اعترض لم يجد اعتراضه نفعاً.كما يشير ان من اسباب فشل المحاولة اخبار عارف عبد الرزاق سعيد صليبى آمر موقع بغداد وآمر الانضباط العسكري وحميد عبد القادر مدير الشرطة العام بعزمه للقيام بانقلاب ولم يأبه لانتشار خبر الانقلاب المزمع القيام به لثقته بانه سيلاقي تأييداً في اوساط القوميين الناصريين مدنيين وعسكرين .
اما هادي خماس فقدرأى من وضع الخطة البديلة كان في منتهى البلادة وانها لو نفذت لكانت دموية في تنفيذها.
بدأ عارف عبد الرزاق تحركه ،اذا أستدعى في الساعةالخامسة من عصر يوم الخميس الموافق 14 ايلول 1965 العقيد حميد عبد القادر السامرائي مدير الشرطة العام الى مقر قيادة القوة الجوية واخبره ان انقلاباً يتم في الوقت الحاضر لازاحة عبد السلام منه اما الاشتراك او الوقوف على الحياد فتظاهر مدير الشرطة العام بالتحمس للانقلاب وباركه وتعهد باقناع امر موقع بغداد العقيد سعيد صيلبي بالانضمام .
لكن الاخير بعد مغادرته قيادة القوة الجوية توجع مباشرة الى سعيد صليبى ليخبرهبالامر ،فاسرع الاخير الى انذار الوحدات العسكرية ببغداد ، التي كانت تحت امرته بحكم منصبه ،والالموالية للرئيس العراقي طالباً منها مقاومة اية محاولة انقلابية كما تهيأ للامر رئيس اركان الجيش وكالة عبد الرحمن عارف ة، شقيق رئيس الجمهورية الذي اعتمد في تحركه على اشخاص من ذوي النفوذ والمناصب العسكرية المؤثرة داخل بغداد وضواحيها .من جانب اخر استدعى عارف عبد الرزاق سعيد صليبى فتظاهر بتأييده للمحاولة لكنه تحفظ على اشتراك بعض العناصر فيها منهم العقيد الركن عرفان عبد القادر وجدي امر الكلية العسكرية ، ومعاون مدير الاستخبارات فاروق صبري الخطيب وعبد الامير الربيعي .
لذا قام عارف عبد الرزاق باعتقاله اول مرة لكنه سرعان ما اطلق سراحه لقناعته بان سعيد صليبى “اكثر ولائهُ من ولائهِ لعبد السلام عارف” .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة