داني رودريك
بكين
تحتفل الصين هذا الشهر بالذكرى الأربعين لانطلاق مسيرة الإصلاح والانفتاح التي أحدثت أكثر التحولات الاقتصادية أهمية في التاريخ. توفي ماو تسي تونغ في عام 1976، ونجح دينغ شياو بينغ في ترسيخ رؤيته للتنمية الاقتصادية والتحديث، وتم تكريمه في الجلسة العامة الثالثة للجنة المركزية الحادية عشرة التي عقدت في ديسمبر/ كانون الأول 1978.
وفي العقود الأربعة الأخيرة، أصبحت الصين قوة اقتصادية، مما أدى إلى تحول بالغ الأهمية للاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية.
بدأت الصين بتنفيذ الإصلاحات الزراعية، حيث تم تخفيف عبء القيود المفروضة من طرف الدولة. إضافة إلى ذلك، تم منح المزارعين حوافز السوق عن طريق نظام التسعير المزدوج. وقد سمح لهم نظام المسؤولية الأسرية بامتلاك الأرض التي يعملون فيها. واستجاب المزارعون بسرعة، وقاموا برفع كفاءتهم وإنتاجهم.
علاوة على ذلك، تم توسيع نطاق الإصلاحات لتشمل مناطق أخرى. وتم تعزيز حوافز الإنتاج غير الزراعي من خلال ملكية مشتركة تسمى مؤسسات البلدات والقرى (وهي مؤسسات عامة موجهة نحو السوق تحت إشراف الحكومات المحلية القائمة في البلدات والقرى في الصين).
ومع انتشار الإصلاحات في المدن، اكتسبت مؤسسات الدولة المزيد من الاستقلالية وأصبحت استثمارية من الدرجة الأولى. كما تم إنشاء حوافز للمحافظات والجماعات المحلية لاستثمار وتحفيز النمو الاقتصادي.
وأدى نمو المناطق الاقتصادية الخاصة في التسعينيات إلى تحول الصين بنحو حاسم نحو الاندماج في الاقتصاد العالمي.
وكان الهدف من هذه الإصلاحات تعزيز اقتصاد السوق والانفتاح الخارجي. وبينما نمت حصة الصين في التجارة الدولية والاستثمار الخاص، وتقلصت حصة القطاع الحكومي نسبيا بشكل مطرد، تولت السلطات مسؤولية إدارة الاقتصاد.
وتمت إعادة الهيكلة والتنويع الاقتصادي من خلال مجموعة من السياسات الصناعية.
وقد أُجبر المستثمرون الأجانب على الدخول في مشاريع مشتركة مع الشركات المحلية وزيادة استخدام المؤهلات والقدرات المحلية.
وظلت أسعار الصرف والتدفقات المالية الدولية خاضعة للرقابة بنحو كبير.
وفي هذه الأثناء، لم تتبع قيادة الصين أي سياسة، وعملت على تنفيذ إصلاحاتها الخاصة.
ولم يكن الإصلاح موجها بالتعاليم الشيوعية أو بعقيدة السوق الحرة. لقد اتبع كبار صانعو السياسة مبدأً واحدًا شاملًا، وذلك ما يمكن تسميته «بالتجريبية البراغماتية». وكما قال دينغ ذات مرة «إن لون القط لا يهم، سواء أكان أبيض أم أسود، طالما أنه يصطاد الفئران».
ونظرا إلى مميزات التجربة الصينية، فليس من المستغرب أن يظل هناك جدل كبير حول الدروس التي يمكن استخلاصها منها.
بالنسبة للكثيرين في الغرب، تُظهر الصين فوائد الاعتماد على الأسواق والتحرير الاقتصادي.
ومع ذلك، إذا كانت الصين عبارة عن سلة اقتصادية اليوم، سوف يسهم الأشخاص انفسهم في فشل سياسة التدخل للدولة الصينية. بالنسبة للآخرين، تُظهر الصين التفوق الجوهري للنموذج الذي تقوده الدولة.
ومع ذلك، لم تحرز سياسات مماثلة، مثل التسعير المزدوج أو المتطلبات المحلية، أي تقدم في بلدان أخرى.
يمكن التوفيق بين وجهات النظر المتعارضة هذه. لم تنتهك الصين مبادئ الاقتصاد السائد اذ قامت بتطبيقها بشكل خلاق في تضاريس سياسية واقتصادية معقدة.
قدم نظام التسعير المزدوج حوافز السوق على الهامش دون تقويض الإيرادات المالية.
وعززت مؤسسات البلدات والقرى المشاريع الخاصة بها، على الرغم من الأطر الضعيفة لحقوق الملكية وإنفاذ العقود. كما عززت المناطق الاقتصادية الخاصة الصادرات والاستثمار الأجنبي دون تقويض العمالة بين المؤسسات الحكومية المحمية.
وسمحت السياسات الصناعية للصناعات الناشئة باستيعاب الآثار الجانبية للتعلم، بعبارة أخرى، تمثل الصين انتصار الاقتصاد العملي – اذ تسود ثاني أفضل استراتيجيات، وإخفاقات السوق، والتوازن العام، والاقتصاد السياسي – على المنطق التبسيطي لمبادئ الاقتصاد الجزئي.
ليس هناك اختبار أكبر للانموذج الصيني، خلال التحول الاقتصادي في البلاد، لم تكن الأولوية السياسية للحزب الشيوعي الصيني موضع شك، لكن المراقبين الخارجيين توقعوا أن يؤدي استمرار التنمية الاقتصادية في نهاية المطاف إلى تحرير السياسة. بدلاً من ذلك، وفي ظل الرئيس شي جين بينغ، اتخذت الصين منعطفاً أكثر استبدادية، هذه أخبار سيئة لمئات الملايين من الصينيين الذين يتم تقييد حرياتهم السياسية بشكل صارم.
قد يكون القمع السياسي سيئا بالنسبة للاقتصاد أيضًا، وذلك لسببين في الأقل.
أولاً، تمثل حرية تعبير الناس آلية إنذار مسبق للسياسات التي قد تفشل في نهاية المطاف، مما يمكٌن السلطات من تغيير مسارها قبل حدوث المزيد من الضرر.
ثانياً، توفر المنافسة السياسية آليات مؤسسية لتوجيه المعارضة، والتي قد تنتقل إلى الشوارع وتغذي الاضطرابات المدنية.
يُراهن قادة الصين على أنهم يستطيعون تجنب هذه المشكلات، كما يعتقدون أنهم على أتم الاستعداد لمواجهة أي خطر مقبل، وهم يأملون أن يتمكنوا من ممارسة الرقابة الاجتماعية من خلال التعرف على الوجوه والتقنيات الحديثة الأخرى، التي أخذوا زمام المبادرة في نشرها.
بالنسبة لعلماء الاجتماع، لا يمكن الوفاء بمتطلبات الاقتصادات المتقدمة والطبقات المتوسطة المتنامية، إلا من خلال المزيد من الحريات السياسية والمنافسة. وتسود شكوك كبيرة في أوساط النخبة السياسية الصينية، وذلك لعدة أسباب، عندما ينظرون إلى الغرب اليوم، يرون الشعبوية والغوغائية والانقسامات العميقة، بدلاً من مجتمعات منسجمة وشاملة، ربما محاولة الصينيين الجمع بين اقتصاد عالي النمو ومتطور تقنياً والاستبدادية، هي تجربتهم الأكثر طموحاً حتى الآن.
داني رودريك: أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد، ومؤلف كتاب «الحديث عن التجارة: حلول من أجل اقتصاد عالمي».
بروجكت سنديكيت