لمن العلم والنشيد..؟

بين آونة واخرى تنبعث الدعوات وتتصاعد ثم لا تلبث ان تخفت؛ لأجل تغيير العلم والنشيد الحاليين، بوصفهما يمثلان حقبة النظام المباد وما طفح عنها من هذيانات عابرة لحدود العراق القديم والحديث. وفي البدء كنت من المتحمسين لمثل هذه الدعوات والتي تاتي منسجمة وطبيعة ما يفترض انها مرحلة للانتقال صوب الديمقراطية وما تتطلبه من شروط ورموز ومنظومة قيم، تمثل الضد النوعي لما فرضته “جمهورية الخوف” من شعارات واناشيد وقادسيات وغير ذلك من عنتريات، انحدرت بأحد اكثر الشعوب والاوطان جمالا وثراء الى ما هي عليه اليوم من تشرذم وانحطاط. لكنني اليوم وبعد انكماش ذلك الحماس، أجد نفسي أميل الى التريث في التعاطي مع مثل هذه الملفات ذات الطابع الوطني والقيمي، لا لكونها غير ضرورية بل على العكس فهي مهمة جداً بوصفها مؤشرا على وجود انعطافة حاسمة في تاريخ هذا الوطن الحديث. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ أين هي مثل هذه الانعطافة في المشهد الراهن..؟
ان بقاء علم ونشيد ورموز وتشريعات النظام المباد، تاتي منسجمة وما يجري على أرض الواقع، وكل من يتابع ما أفرزته تجربة ما يفترض انه “مرحلة للعدالة الانتقالية” سيجد انها لم تتخطى حدود اجراء عمليات تدوير ضخمة ومتتالية لحطام ما اورثتنا اياه حقبة النظام المباد. لذلك لا يشعر القوم بضرورة تغيير مثل تلك الرموز اللاعراقية (نشيد موطني كتب لمدينة نابلس الفلسطينية، والعلم استورد من الشقيقة مصر وهكذا ما يتجحفل واياهما من جودليات عقائدية) وهذا يؤكد حقيقة ان هذا الوطن المنكوب لم يصل لسن التكليف الوطني والحضاري بعد، فمن دون مواطن وامة عراقية لا حاجة لنا بهما. لذلك ادعوا لترك أمر مثل تلك الملفات الوطنية الى صدف تاريخية وأجيال اخرى، تتخفف فيها شعوبه وقبائله من لعنة “الهويات القاتلة” وثارات القرون السالفة، والتي فرضت علينا مشواراً قاسياً ومؤلماً من التشرذم والهمجية والانحطاط. والا فما الذي بمقدورهما (العلم والنشيد) تمثيله اليوم؟ ونحن نشاهد حجم استهتار هذه الطبقة السياسية بابسط متطلبات الدولة الحديثة والوحدة الوطنية، حيث يصر ممثلي (المكونات وقبائلها الدبلوماسية) على استقبال الوفود الاجنبية في جحورها الحزبية المزينة براياتها وبيارغها الخاصة، وكذلك الوفود التي لا تفتر حماستها الى دول الجوار. هذه وغيرها الكثير من الظواهر المرضية التي تؤكد وبما لا يقبل الشك؛ على عدم الحاجة لمثل تلك الرموز البطرانة.
طبعا الطبقة السياسية الحالية تدرك طبيعة المازق الذي يمثله، بقاء علم ونشيد النظام المباد كل هذه المدة الطويلة (أكثر من نصف وعقد من الزمن). لذلك نجدها تستعين بخدمة القذائف الدخانية وبعض الفزعات الاعلامية وغير ذلك من المناورات، كي تفلت بجلدها من هذه الورطة. لكننا ككتاب ومتابعين نتمنى عليها وبكل فصائلها المتحاصصة من الفاو لزاخو؛ أن لا تشغل نفسها بمثل هذا الملف المستقبلي، والذي ان اصروا على تنفيذه في ولايتهم هذه (والعياذ بالله) فستكون بمثابة طركاعة اخرى تضاف الى ما ورثناه من كوارث مادية وقيمية وسكراب رمزي. دعونا نواجه بشجاعة ضحالة امكاناتنا الواقعية وبؤس حالنا وعجزنا عن “الاصلاح” و”التغيير” وغير ذلك من المفردات الماصخة بفعل اجترارنا الطويل لها، فدون ذلك يعني المزيد من الهلوسات والفزعات والعنتريات التي تتساقط تحت ظلال بيارغ الرسالة الخالدة وايقاعاتها وتراتيلها وهلوساتها الجليلة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة