في انتظار البغدادي

حتى لا يذهب الظن بكم بعيداً عن نوع “البغدادي” الذي ننتظر، وتترقبه سجالات ومؤتمرات الكتل الاعلامية؛ نقول انه شخص ينتمي لعائلة بغدادية ومولود فيها كي يتقلد منصب امين العاصمة (بغداد). هكذا أكتشف القوم اهمية وضرورة هذا الحل والمنقذ لما آل اليه حال هذه المدينة، بعد عقود مريرة من الانحطاط والتدهور القيمي والمعماري والاجتماعي والجمالي، بعد سلسلة من الغزوات الهمجية والردات الحضارية والتي تمكنت من جعل سافلها عاليها. للوهلة الاولى يبدو هذا الاقتراح منسجماً وما تهدهده مخيلات وتمنيات العديد منا حول امكانية استرداد هذه المدينة المنكوبة لشيء من محطاتها الجميلة.
لكن ومع قليل من التريث في التعاطي مع مثل هذه الاقتراحات، نجدها لا تملك ادنى اهتمام بمثل هذه الاحلام البطرانة، وهي وكما عودتنا هذه الطبقة السياسية لا تخرج عن نطاق المناكفات والصراعات المستمرة بين الكتل المتنفذة للاستحواذ على المناصب والمواقع الدسمة، وهذه المرة تدور حول موقع “يبيض ذهب”.
ان موضوع استرداد العاصمة لعافيتها وهويتها الحضارية لا يمكن ان يحصل بمثل هذه الاقتراحات الفنطازية، ومن يعي شيئاً قليلاً من محنة هذه المدينة وباقي مدن العراق، لا يمكن له تقبل مثل هذه الحلول، فاي “بغدادي” ولو امتلك قدرة سوبرمان الخارقة، لن يتمكن من اختراق هذه الشبكات الاخطبوطية للفساد وانعدام المعايير المعتمدة والمجربة في نهوض الامم والمدن. وهذا ما يعرفه العراقيون ولا سيما “البغداديون” منهم، كما ان هذا العنوان (البغدادي) لا يمنح حامله منظومة واحدة ومتناغمة من القيم والتقاليد والافكار، فهناك غير القليل ممن تنطبق عليهم شروط هذا العنوان (مسقط الرأس والانتماء لاسرة تسكن المدينة) مثقلون بقيم وتقاليد القوافل الغابرة وهناك بعض المحطات المفصلية في تاريخنا الحديث تفصح عن ذلك بوضوح تام.
اذن مسألة انقاذ العاصمة بغداد؛ تحتاج الى شروط ومتطلبات عديدة ترتبط بوشائج وثيقة بكل ما حصل في العراق بكل مدنه وقصباته وتضاريسه الممتدة من الفاو لزاخو، وهذا ما لا تطيقه الطبقة السياسية الحالية، هذه الطبقة المتفننة بتحوير وفتل عنق الازمات والمشاكل ورميها على شماعة الآخرين، وكما أشرنا مراراً فهم يجيدون صنعة اعاقة بعضهم للبعض الآخر.
اذن المشكلة الفعلية لا علاقة لها بنسب وحسب هذا المرشح لمنصب امين العاصمة، حتى لو عثرت الحفريات السلالية على من تنحدر سلالته للقافلة التي رافقت ابو جعفر المنصور نفسه. لان ادارة مثل هذه المسؤولية (امانة بغداد) كما غيرها من المسؤوليات والتحديات التي تواجهنا، تحتاج الى حزمة من التحولات الجذرية في شتى ميادين الحياة المادية والقيمية، تحولات مغايرة لما شهدناه من كرنفالات ومؤتمرات للعشائر والقبائل والطوائف والملل، تحت رعاية هذه الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد امور بغداد وباقي المدن والقرى والمناطق العراقية بعد ما يفترض انه تحول صوب النظام الديمقراطي والتعددية والحداثة والتنمية الشاملة، لتجعل منه عرساً تسترد القبائل والطوائف فيه فتنتها وسطوتها. ان هذا التدهور والانحطاط الذي عصف بالمدن العراقية وعلى رأسها العاصمة بغداد، لم يكن وليد لحظات أو محطات عابرة، وما حصل من دمار لمدنية بغداد ونسيجها الاجتماعي وذائقة سكانها وانتشار عشوائياتها وسطوة ما يعرف بـ “حثالة الريف وأوباش المدن” عليها، لا يمكن مواجهته بمثل هذه العطابات البائسة والاستدارات القاتلة للكتل والجماعات تجاه بعضها البعض الآخر، والذي سينتهي عاجلا أم آجلا الى حيث “السلة الواحدة”.
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة