يحدث هذا أحياناً

لا يمتلك أهل الفن في هذه الدنيا سوى الموهبة والمثابرة والجهد الشخصي. فهم في العادة أناس طيبون ومسالمون. والقليل منهم حصل على الشهرة والمال، وتمكن من العيش برفاهية. أما الباقي فقد جنى شهرة بدون مال، وسمعة بغير ما ثروة.
ولقربهم من الناس، وعدم انفصالهم عنهم، أضحوا في وقت النزاعات والقلاقل الاجتماعية هدفاً سهلاً لكل باغٍ أو معتدٍ. فلا قبل لصدورهم العارية بمواجهة الطعنات، ولا قدرة لرؤوسهم الحاسرة على مقاومة الرصاص. فمات الكثير منهم في العراق والبلاد العربية الأخرى، وانقضت أعماره على يد متطرفين أو عابثين، قبل الأوان.
هذا هو في الأصل ما اعتاد الناس عليه في زمن الفوضى. ولكن ما لم يخطر في بالهم هو العكس. حينما يكون الفاعل فيها من الوسط الفني، ويكون المغدورون قوماً آخرين. ولكنها حوادث نادرة على أية حال.
ومن أشهر هذه الجرائم على الإطلاق جريمة اغتيال الرئيس الأميركي الجمهوري ابراهام لنكولن صاحب قرار تحريم الرق الصادر في أول أيام سنة 1863. وكان مقتله ضربة قاصمة لحضارة الولايات الجنوبية القائمة على العبودية. فأعلنت سبع ولايات منها على الفور انفصالها عن الاتحاد، وتشكيل كونفدرالية مستقلة، وشرعت بالاستعداد للحرب.
كان (جون ويلكس بوث) ممثلاً بريطانياً من أسرة فنية، فأبوه ممثل معروف أيضاً. ولكن الابن هاجر إلى أميركا، فنجح فيها نجاحاً ملحوظاً. وبرع في تمثيل مسرحيات شكسبير خصوصاً، وبات يحصل على دخل عال في نيويورك، قبل أن ينتقل منها إلى واشنطن.
ولكن بوث كان من مناصري الرق، ومناوئي حركة إلغائه. فلما أصدر لنكولن قراره الشهير، اندلعت الحرب الأهلية. وخاض الجنوبيون والشماليون قتالاً دامياً استمر حتى ربيع عام 1865.
فلما وضعت الحرب أوزارها صمم بوث على اغتيال لنكولن. وكان الأخير من محبي المسرح، ولم ينقطع عنه بعد صدور تهديدات متشنجة ضده. فقد كانت أجمل ساعاته تلك التي يقضيها في المسرح أو دار الأوبرا. وقد نصح مراراً بتجنب الظهور في الأماكن العامة ولكنه رفض ذلك. وعاد فوافق على اصطحاب جنود حماية أثناء تنقلاته.
وقد تمكن بوث من استغلال فرصة سنحت له بعد تخطيط مسبق وانتظار طويل، فأفرغ رصاص مسدسه في رأس لنكولن في 15 نيسان 1865 وهو يشاهد عرضاً مسرحياً بعد توقف الحرب بوقت قصير، فمات من ساعته. ولم ينج بوث من العقاب، فدفع حياته وحياة اثنين من مساعديه ثمناً لهذه الجريمة البشعة.
لم يستطع أحد طوال هذه السنين أن يجد تفسيراً لإقدام فنان مسرحي كبير مثل بوث على جريمة قتل مروعة كهذه. وكان يمكن له أن يعالج الموضوع الذي أثاره في مسرحياته بشكل أشد تأثيراً، ويطرح وجهة نظره فيها بطريقة أكثر إقناعاً. ولكنه اختار هذه الوسيلة الشائكة التي لم تنتج إلا ردود فعل غاضبة، أثارت سخط الناس، وأججت حماس المجتمع الدولي في كل مكان.
محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة