الاغتراب الروحي في (وحيداً في الأزقة أغني)

علوان السلمان

الشعر كون ابداعي ومغامرة متجاوزة معبرة عن لحظة انفعالية باقتضاب موح متكئ على الصورة والرمز الشفيف برؤية متصفة بواقعيتها المكتظة فكريا ووجدانيا عبر لحظة شعورية خالقة لحقلها الدلالي المنسجم ونبضها الموضوعي..ابتداء من عمود الشعر ومرورا بالتفعيلة فقصيدة النثر والنص المفتوح وانتهاء بالومضة الاحساس الشعري الذي يخترق المخيلة ليشكل شكلا من اشكال الحداثة التي راجت في السبعينيات من القرن العشرين نتيجة التحول الفكري والفني والتكنولوجي … فكانت آخر محطات الارتقاء الشعري التي ظهرت كتعبير عن روح العصر الذي وسم بعصر السرعة..فضلا عن انها تحمل رؤى الشاعر المستنطقة للذات المختصرة للمسافات في لحظة حلمية معبرة عن كينونة مغتربة..باعتماد تقنية الانزياح والايماء والتكثيف واستنطاق الرموز والصور بكل تشكيلاتها..هذا يعني انها خلاصة لتراكمات نصية تكشف عن وجدان شعري قائم على التفاعل والاستجابة للإضاءة الشعرية(الفكرية او الوجدانية)..وهي تتشكل عبر البيت الواحد(بيت القصيد) او(اليتيم)المكتنز بصوره وتشكيله ولغته وايقاعاته(الداخلية والخارجية) وملفوظاته المكثفة ذات الدلالات والايحاءات المتخلقة من ذاتها وعلى ذاتها في حركة بؤرية متوترة ..نامية..لذا فهي تكثيف المعنى المحلق حول الفكرة المركزية الغنية بالإيماء والرمز والانسياب والتدفق..
وبتأمل اركيلوجيا النص الومضي في المجموعة الشعرية(وحيدا في الازقة اغني) للشاعر جابر محمد جابر واسهمت دار امل الجديدة في نشرها وانتشارها/2015.. وتفكيك معطياته من اجل الكشف عن بؤره الجمالية والدلالية ووعي اشتغالاته الحداثية المعتمدة على تكثيف العبارة مع ايجاز جملي ورمزية لفظية مع مفارقة إدهاشيه مفاجئة..
انا وصديقي
جلسنا نشوي الثلج
في مطبخ الذكريات
ونحن لا نملك غير..
حزمة صغيرة من الظلام /ص25
فالنص يمتاز بالتكثيف الجملي الموسوم بالحركية والتوتر مع وحدة موضوعية ونزعة سردية موجزة..ومقصدية رمزية مع توظيف تقنيات فنية كالحذف والاختزال والاضمار واعتماد التصوير البلاغي المتكيء على المجاز والاستعارة من اجل تحقيق الانزياح والصور الجمالية.. فضلا عن انه يركز على المعاني المعتمدة على الايجاز المكتنز بمضمونه ورمزيته اللفظية القابلة للتاويل..كونه نص متخلق عبر حركته الزمكانية المستفزة للذاكرة بضجيج دلالته واكتناز عبارته..
من ظمئنا
شربنا غيمة الصباح
ولخوفنا…
غسلنا بها الجراح

كل قلب..له مفتاح
الا قلبي
بلا باب
يدخله الضوء
فما حاجته للمصباح /ص64
فالنص يتميز بخاصية الحركة وسمة التوتر الناتج من اعتماد الجملة الفعلية الدالة على الحركة..اضافة الى بطء الايقاع الوصفي نتيجة الايجاز والاقتصاد اللفظي والارتكان على تقانة الاضمار والحذف المعوض بالنص الصامت(التنقيط) الذي يستدعي المستهلك(المتلقي) ليستحضر خياله ومخيلته ليسهم في بناء النص..وهناك الاستفهام الباحث عن جواب والذي يسهم في اتساع مديات النص الشعري..ابتداء من العنوان الدلالة السيميائية والمعطى الاولي بفونيماته الاربعة التي تكشف عن ذات مازومة عبر تحركاته الدرامية..فضلا عن انه يشكل مفتاحا تاويليا للنص على حد تعبير امبرتو ايكو.. اضافة الى تحقيقه لوظائفه (الاغرائية والايحائية والوصفية.)..كونه نص استهلالي وامض وبنية دلالية تشي برؤية المنتج(الشاعر) وتستدعي تاويلات جدلية للكشف عن معان جمالية وتجليات نفسية وشحنات دلالية ومدى حركة الفعل في النص الشعري عبر الايقاع ودلالة اللفظ المؤثثة للنص..هذا يعني انه يلخص مدار التجربة الشعرية التي تكشف عن ذات مغتربة في حيزها الوجودي المجتمعي..
الشارع اعمى..
والليل آيل للسقوط

الشارع….
احال رصيفه على التقاعد
ترى..
اين يجلس العشاق..؟؟ /ص90
فالشاعر يقدم نصا يحمل زخما تكثيفيا..ومعنويا محققا للسمة الانفجارية في التاويل والدلالة ..كونه يقوم على الانزياح الذي ينتشل اللفظة من معناها اليومي الى معنى طيفي متوهج الفكرة بتقنياته المتداخلة في فضاءات لغته الرامزة التي تستفز الذاكرة وتنبش خزينها المؤول للتكثيف المتاتي من ضيق العبارة والكاشف عما خلف الالفاظ القائمة على شعرية الرؤيا في اطارها البنيوي من خلال الارتقاء باللغة وانتقاء الالفاظ البعيدة عن التقعر والمتميزة بعلو مستواها الدلالي..

فضلا عن تركيزه على العناصر الشعورية والنفسية مع اتكاء على حقول دلالية (زمان/مكان/ثنائيات ضدية..) شكلت خطابا اتصاليا يستفز الذاكرة ويثير الانفعالات.

قلت لحبيبتي:
القي عصاك على جسدي
كي ارى..
ثعابين العشق
عند باب المستحيل /ص98

ساسرق من الحرب
حرف الراء
لانير به..
بساتين وجعي.. /ص103
فالشاعر يستخدم الصورة الشعرية الدالة مع ايقاع منبعث من بين ثنايا الالفاظ..فضلا عن انه يحاول الامساك بالنسق الحكائي والتوتر الدرامي مع حركية متميزة بدفقها الصوري الكاشف عن موقف شعري برؤية مختزلة ونمط تعبيري رامز يفتح باب التاويل عبر التناص وقصة (موسى) فيسهم في (اتساع الرؤيا مع ضيق العبارة) ليقدم نصا حداثويا مكتمل البنية العضوية معنى ودلالة.. وفكرة متنامية دراميا عبر التنويع الشكلي لفعل اللفظ المحقق لعمق الدلالة الصورية وهو يمزج ما بين الجمالي والمعرفي مع تركيز العبارة وتكثيف المعنى المقترن بمفارقة اسلوبية مفاجأة..تخلقها رؤية منتجها ورؤياه..كونها (كيان مكتمل جسده الايجاز والمفارقة روحه) على حد تعبير الشاعر الرومانسي الانكليزي كوليردج..
وبذلك قدم الشاعر نصوصا (مختصرة لحياة مختصرة)..باعتماد مقاييس جمالية لتشكيل معماره الفني((صور/تراكيب لفظية مكثفة/ايجاز/خيال..) مع ضربة اسلوبيه ادهاشية وتركيز على المعاني باعتماد اللفظ الرامز المكتنز بمضمونه الانساني.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة