ليس الأقدمون وحدهم الذين تركوا آثارهم على الحجر، ونقشوا أسماءهم على ألواح الطين. فهناك في هذا العصر من بقيت بصماته خالدة بمرور الزمن أيضاً.
لقد ترك العديد من زعماء العالم ندوباً غائرة في تأريخ بلدانهم، والبلدان الأخرى.وتحولوا إلى قادة عظام يذكرون في كل مكان. فالمجتمع الإنساني يتأثر بما حوله، ولا يتوقف عند حدود الوطن الواحد. وهذه هي حال العلماء والمخترعين والكتاب والمفكرين والفنانين في شتى بقاع المعمورة.
كان لدينا في العراق رجال من هذا النوع، لم تستطع صروف الدهر أن تنال من إنجازاتهم في قليل أو كثير. لأن ما قدموه كان إضافة غير مسبوقة، غيرت وجه البلاد وعمقت من وعي المجتمع، وتفكير الناس.
ومن هؤلاء الوزير خير الدين حسيب، الذي قام في منتصف الستينات بتحويل العراق إلى نظام الإدارة المركزية. فألغى القطاع الخاص وأحل بدلاً عنه القطاع العام. ورغم مرور أكثر من نصف قرن على هذه الخطوة، ورغم قلب نظام الحكم لأكثر من مرة، فإن القطاع الذي أرسى أسسه خير الدين حسيب هذا – وهو مازال حياً يرزق – بقي ثابتاً في مكانه، لم يمس!
والقطاع العام ليس شأناً اقتصادياً صرفاً، كما قد يتبادر للذهن، بل هو أسلوب متكامل للحياة، لا يسمح للفوضى أن تدب في المجتمع. وبناء عليه بدأت وزارة الإرشاد في أعقاب تلك المبادرة (1965) بإصدار عدد من الدوريات وسلاسل الكتب. واستطاعت أن تتحول إلى وزارة ناجحة. ولم تكتف بنشر المؤلفات العراقية بل تجاوزتها إلى نتاجات عربية أخرى. وبمرور الوقت تضاعف نشاط وزارة الإرشاد (التي تحول اسمها لاحقاً إلى وزارة الثقافة والإعلام) حتى غدت محور اهتمام النخبة العراقية والعربية في كل مكان.
وإذا كان هذا النظام قد تسبب في ما بعد بثقافة أحادية، احتكرت وسائل النشر، وأبعدت كل من ناصبها العداء، فإنها أغنت البلاد بتراث ثقافي نادر المثال. ولم تتوقف هذه المهمة حتى بعد أن أصيب القطاع العام بالشلل التام.
إن وفرة المنشورات، وإن لم تكن مقنعة كثيراً، تبقى ذات مردودات إيجابية. ففي الستينات أيضاً تولى ثروت عكاشة – وهو من الضباط الأحرار – وزارة الإرشاد القومي في مصر. ولأن عكاشة كان يؤمن بالنوعية، فإن وزارته لم تعن بنشر الكثير من المؤلفات. وحينما غادر الوزارة وحل محله عبد القادر حاتم، أصدر أوامره بنشر كل ما تقع عليه اليد من كتب، بعد أن تلقى شكاوى من المؤلفين. فأتاح الفرصة لمئات الأسماء أن ترى النور. وكان يعتقد أن هذه المنشورات الغزيرة لا بد أن تتمخض عن شئ مفيد. ولا بد أن تدفع بالشبان الجدد إلى الاستمرار.
ترى كم من وزير من وزرائنا فكر بمثل هذا الأمر، فقرر أن يترك أثراً جميلاً في وعي الناس. وكم من مسؤول من مسؤولينا حاول أن يضع في بلاده بصمة لا تضمحل بمرور الأيام ؟
محمد زكي ابراهيم
آثار .. وآثار!
التعليقات مغلقة