لا مسؤولية المسؤول..!

في بداية تأسيس الدولة العراقية (العام 1921) وجد العراقيون أنفسهم أمام تحدي بناء مؤسساتها على أسس جديدة لم تكن مألوفة ومستساغة من غالبية سكان هذا الوطن القديم. لكن لم يمر وقت طويل حتى أظهر العراقيون بشتى منحدراتهم وتوجهاتهم، استعداداً وديناميكية لتقبل قيم ومناهج هذه المنظومة الوافدة، لا سيما مع ولادة المدارس الحديثة وتزايد البعثات العلمية التي ضمت خيرة العقول والمواهب العراقية في شتى الحقول والميادين النظرية والعملية. وخلال عقود قليلة تمكنوا من شق طريقهم ومواجهة التحديات والهموم الواقعية لعصرهم.
وكان ذلك من خلال نخب سياسية وثقافية وعلمية ونقابية وضعت نصب عينيها مسؤولية النهوض بالوطن والارتقاء بشعوبه، عبر تكريس أفضل ما يمتلكونه من قدرات واستعداد ومثابرة وايثار، لتحقيق تلك الاهداف السامية، لذلك نادراً ما يختلف العراقيون حول كفاءة ونزاهة ذلك الرعيل الاول من المسؤولين بغض النظر عن انتماءاتهم الإثنية والطائفية وميولهم السياسية والآيديولوجية، لقد كانوا يمثلون هذا العنوان (المسؤول) بكل ما فيه من معنى وواجب وظيفي وقيمي.
هكذا كان الأمر قبل أن تستباح الدولة والتجربة السياسية الفتية على يد “حثالات الريف وأوباش المدن” شتاء العام 1963، لتصبح المواقع والمناصب والعناوين العليا نهباً لاكثر المخلوقات بعداً عن شروط ومتطلبات المسؤولية والقيادة وادارة الميادين السياسية والاقتصادية والعلمية. وبعد اربعة عقود من هيمنة هذا النوع من “المسؤولين” تلاشت قيم ومعايير ذلك الرعيل الاول من الوطنيين العراقيين، لصالح قيم ومعايير قطاع الطرق الجدد ولملوم عصبياتهم القبلية والمناطقية والاسرية.
لقد خسرنا جميعاً واهدرنا الكثير من الثروات والإمكانات والفرص، بعد انقطاعنا عن تلك البدايات الواعدة في صناعة الدولة ومؤسساتها والمعايير المجربة، لصالح شريعة وفرمانات أولاد الشوارع ورجال العصابات، تلك الشرائع والتقاليد التي ما زالت حاكمة ومهيمنة بالرغم من مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على انتشال شيخ القوارض من جحره الأخير.
خمسة عشر عاماً من الفشل والفاشلين او ما يمكن أن نطلق عليه بـ (لا مسؤولية المسؤول) حيث المعيار الذي تعتمده جميع الكتل التي تلقفت اسلاب الغنيمة الازلية هو (الولاء والبراء) وبصيغ تتناسب وما تمتشقه الكتلة او الجماعة من عناوين وواجهات تقليدية كانت أم حداثوية. معايير تنسجم تماماً ومواهب ذلك الحطام الهائل من البشر والحجر الذي أورثتنا اياه حقبة “العصر الزيتوني” حيث لم يمر وقت طويل حتى وجد “العداؤون وراكبوا الدراجات” طريقهم الى صفوف القبائل السياسية التي استوطنت المنطقة الخضراء، ليطفح على سطح المشهد السياسي والاداري لما تبقى من حطام الدولة العراقية؛ جيل جديد من “القيادات” السياسية والادارية والنقابية والحزبية، لا يعرف عنهم اية مواهب ونشاطات سابقة في هذه المجالات الحيوية، وعمر غير القليل منهم لم يتجاوز دورة حياة الذبابة، حيث يتوارى ويختفي سريعاً كما الوغف، لكن كل ذلك لن يترك أثراً على ماكنة تفريخ الكتل والجماعات، لهذا النوع من “المسؤولين” الذين يتدافعون الى سنام المواقع والسلطات من دون أدنى وجع من عقل او ضمير.
ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان هذا العنوان (لا مسؤولية المسؤول) لا يقتصر على الجهلة من المهرولين الى الوليمة فقط، بل يشمل ايضاً المثقلون بالعناوين والالقاب العلمية، المنخرطون بذلك الماراثون وهم يدركون جيداً نوع الوظيفة والدور المرسوم لهم من أولي الأمر…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة