أنا.. لا يعرف الفضل إلاّ ذووه

– 1 –
أهل الفضل هم النابهون المبدعون في مضمار العلم والأدب والثقافة والمعرفة والإعلام وسائر الحقول الحيوية الأخرى.
وهؤلاء في الغالب يعانون من أحابيل تيّارين:
التيار الاول:
تيّار المنكرين لعطاءاتهم الكبيرة والمشككين بهم، انطلاقا من خلفيات مغموسة بالحسد والعداء. والعُقد النفسية.
وهؤلاء ليسوا من الجهلاء ولكنهم ممن يريد ان يستثأر بالقدح المعلّى دون غيره في كل تلك المضامير.
التيار الثاني:
هم الأميّون، والأميّة الثقافية هي أخطر (الفيروسات) التي تُجهز على
الانسان وتفتك به اشد الفتك.
ونعني بالأميّة الثقافية تدني منسوب المعرفة بوجه عام، وفقدان البوصلة الموصلة الى مرافئ السلامة
ومن هنا قيل:
لا يعرف الفضل الاّ ذووه
حكاية طريفة
حدّثني أحد العلماء الراحلين قائلاً:
جاءني أحدهم فور انفضاض حفل كبير وقال لي:
أحسنُ المشاركين في الحفل هو ذلك الانسان الجميل، صاحب الإلقاء الحسن، والمعاني المهمة الذي لا أعرف اسمه.
قلت له:
ماذا قال؟
قال:
انّ كلامه لم يكن مفهوماً لي،
ومن هنا جاء تفضيلي له.
أرأيت كيف تكون الأميّة؟
انّ الكلام الذي يستعصي على الفهم هو أعلى صيغ الكلام عند هذا الأميّ الذي لا يحسن التمييز بين الجيد والردئ، وغاب عنه ان العلماء والادباء يمتدحون اصحاب القدرة على الاتيان “بالسهل الممتنع” الذي يفهمه عامة الناس ولا يقوى على محاكاته الاّ الافذاذ.
ومن السهل الممتنع مثلا قول الشاعر:
لا عذّبَ اللهُ أمي انّها شربتْ
حبَّ الوصي وغذتنيهِ باللبنِ
وكان لي والدٌ يهوى أبا حسنٍ
فصرتُ من ذي وذا أهوى أبا حسنِ
ومنه قول كاتب السطور:
أنا للتنوير والاصلاح أسعى
لم أُطق حجبا لأفكاري ومنعا
قلمي عقلي وحرفي مهجتي
وعساني بهما أُحْسُنُ صُنْعا
أضف الى ما يثيره التيّاران من صعوبات ومتاعب، انّمعظم السلطويين من الحكام لا يكتثرون بأصحاب المواهب مالم تكرّس تلك المواهب لصالحهم، وهذا مالا يرتضيه الأعلون من الرموز العلمية والأدبية والدينية والثقافية …
ثم انّ من العادات الاجتماعية السيئة العزوف عن استعراض (الايجابيات)، والانهماك في ذكر (السلبيات)، وحجب الافصاح عن الحقيقة مادام اولئك الروّاد الافذاذ على قيد الحياة، فاذا ماتوا نُصبت لهم مآتم التأبين، وخطت المقالاتُ بقلم باكٍ حزين!
لقد قال المرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي ت 1965 –شيخ الخطباء في عصره – في رثاء المرحوم الشيخ عبد المحسن الكاظمي – شاعر العرب الشهير – الذي عاش بعيداً عن وطنه العراق ومات غريبا في مصر:
ومن عجب بَكَتْكَ وأنتَ مَيْتٌ
بلادٌ ضيّعَتْكَ وأنت حيُّ
لقد جاء الاهتمام به بعد موته، وأهملت العناية به في حياته!
ولكن الصورة البشعة التي لا تُقبل على الاطلاق هي إجهاز الدكتاتوريات الظالمة على القمم الشامخة،
كما أقدم الدكتاتور المقبور على اغتيال الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر الذي يُعدّ مفخرة للأمة، ونابغة من نوابغها الكبيرة، لا في علوم
الدين فحسب، بل في حقول شتى من العلم والمعرفة، أولها الفلسفة والاقتصاد ولا تنتهي بالتاريخ والسير وحساب الاحتمالات …
بينما تقيم جامعة (موسكو) نصبا تذكاريا لهذا الامام العظيم، تخليداً لذكراه واعتزازاً بفتوحاته العلمية وانجازاته الفكرية الفريدة!
نعم انّ الفضل لا يعرفه الا ذووه،
ومن المناسب هنا ان انقل لكم ما سمعتُه من المرحوم اية الله العظمى الشيخ مرتضى أل ياسين – وهو من مراجع الدين وأعلام الفقهاء، كما انه خال الامام الشهيد الصدر – فقد حدثني قائلاً:
حين اجتمعت مع السيد الخوئي يوماً – وهو زعيم الحوزة العلمية في النجف الاشرف آنذاك – سألني قائلاً:
هل حدّثك السيد محمد باقر الصدر عن نظرياته العلمية؟
قلت:
ولماذا تسأل؟
قال:
انّ هذا الرجل نابغة مدهش فيما يحمل من ملكْات وقابليات، كان هذا الكلام يوم كان الشهيد الصدر يحضر بحث استاذه السيد الخوئي – رحمهما الله تعالى.
والغريب انّ الامام الشهيد الصدر بقي مُرعِباً لخصومه وحسّاده حتى بعد استشهاده، والاّ فما معنى المحاولات الرخيصة التي تحاول النيل منه حتى اليوم.
والغريب أيضا:
انّ الذين ملأوا الأسماع والأرجاء بأنهم الجند الاوفياء. تنكروا له يوم
تربعوا على كراسي السلطة، وانصرفوا بالكامل لجني الأرباح والمكاسب الشخصية والفئوية بعيداً عن كلّ ما تقتضيه الموازين والمعايير الاخلاقية والحضارية والعلمية والإنسانية.
ورغم ذلك كله بقي الصدر نجما ساطعاً في آفاق التجديد والابتكار، وعلماً بارزا في دنيا الفقاهة والقيادة والمرجعية الصالحة الرشيدة.
حسين الصدر

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة