بالتمرد تدافع عن ذاتها..
عبد السادة البصري
(( أنا لا أصيخُ السمعَ إلاّ لنداء
قلبي … قلبي …
تلك القبضة الوردية الصغيرة
قلبي مركز العالم
ومفتاح الكون )) ص34
لكلّ كائنٍ حيٍّ طريقةٌ خاصةٌ في الدفاع عن ذاته ، بحيث يبتكر أشياء وأفعال غير موجودة أو متداولة ليتخذ منها ساتراً منيعاً ضدّ هجمات الآخرين وبكلّ أشكالها .
والمرأة لابدّ لها أن تثأر لنفسها وكيانها كأنثى أمام ما يعتريها من تجاوزٍ وما ترتكب بحقّها من حماقات من قبل الرجل ــ الذكر !!
لهذا نجدها في لحظات تثور … وتتمرد ..وتطلق العنان لكل خيولها أن تدوس بساتين الورد وتحولها الى أرضٍ جرداء قاحلة مثلما زرعتها وروداً وملأتها بالعبق والعصافير !!
في مجموعتها البكر (( حينما يجهشُ النرجسُ بالبكاء )) تطلعنا الشاعرة البصرية (( ابتهال قاسم الدبوني )) على صورة أخرى غير التي تخزنها خيالاتنا عن المرأة ..ولأننا نعرف أن المرأة كيان مجبول من الرومانسية والعطف والمحبة وبستان حب ونبع حنان نصطدم بما تصوره الشاعرة حيث تجعلها متمردة .. ثائرة لبنات جنسها .. إذ تقف بوجه الرجل وتعطيه درساً بمعنى الحب والالتزام الحقيقي واحترام مشاعر الآخرين وهذا يحسب لها كونها صوتا انثوياً من حقّها ان تدافع عن بنات جنسها ،، فبرغم ما نقرأه في الصفحة الأولى من كلامٍ عن الوطن كما تقول :ــ
(( في المدن التي تحصي خطاي
وتترصدني كصيادٍ ماهر
بكل شساعته
يبدو العالم
قفراً أمامي )) ص5
نجدها تتراجع عن هذا القول لترسم صورة أخرى مغايرة بقولها :ــ
(( بعيداً عنك يا وطني
أصاب بعمى الألوان
وتلاشي البصيرة
اذا لم تمتزج زرقتي ببياضك
مستحيل الوجود … أنا
والحياة تفقد كل أسبابها
في انحسار هوسي بك )) ص8
بعد ذلك يأخذ كلامها منحى آخر ،، هو الحديث مع الجنس الآخر ــ الرجل ــ الذي يقوم بأفعال لا تروق لها أبداً :ــ
((حروبكم طعنت الربَّ في قلبه
ووحشيتكم هزأت بقوانين الغاب !!)) ص9
لتظلّ تحاكيه وترسم له الدرب الذي أراد أن يجعله شوكاً وحسكاً تحت قدميها ،، بينما هي ذات يوم زرعت فيه أزهاراً وحشائش تحت قدميه لكنه ليس بالكائن الذي تخيلته :ــ
(( أسبغتُ عليك كل ما أملك
من وجدٍ وهيام
ولم تمنحني سوى ذلّ الخديعة !!)) ص12
من هنا تبدأ الحكاية ،، زيفٌ وخداع ومراوغة في التعامل هي كل ما حصلت عليه من قبله ، رغم إنها منحته كل شيء جميل في الوجود ، لكنه بتعنّته وجبروته لم يفهم ما يريده بالضبط فأضاع كل شيء :ــ
(( لعلّك تفهم إنّ العالم
أكثر اتساعاً من ذواتنا
وأبعد كثيراً
من أوهامك !! )) ص15
لأن الرجل ــ الذكر،، يحتاج المرأة ــ الأنثى في كل مفصل من مفاصل حياته الاجتماعية خلقها الله لتكون له أنيساً وسنداً وعوناً وشريكاً في الحياة وعلى مر الأيام والليالي الموحشة ،، ولولاها لما جئنا للحياة ،، بمعنى ان المرأة ــ الأنثى ــ هي الأرض التي نبتت جذور البشرية في رحمها ومنها سقيت عظامنا ولحومنا وأرضعتنا الحب وما شابهه :ــ
(( وما أنتم أيها الرجال
إلاّ أرغفة أرحامنا
ونبيذ ليالينا
نحن لسنا قواريركم
بل أنتم أطفالنا الصغار
تحتمون بنا من البرد والريح
والجوع والمرض !! )) ص52
نجد إن كل مقطع أو جملة سطّرتها الشاعرة هي تصوير حي لضمير المرأة الصارخ في وجه الاضطهاد الرجولي لها ، حيث نبصر شموخ المرأة وكبرياءها وعزّة نفسها والتي صارت علامات فارقة في أغلب قصائد المجموعة :ــ
(( لا تنظر إليَّ عابساً
أو تتململ …
هي أصول لعبتنا الأثيرة
وعليك تحمّل نتائجها )) ص 47
بين هذا التمرد الواضح على سطوة الرجل نجد ها تترك اشتغالاتها الشعرية الأخرى من حيث رسم الصورة الفنية ذات العمق الفلسفي والتعبيري الذي يمنح القارئ فسحةً من التأمل في كل كلمة لتبدأ اشتغالا آخر ومنحى جديد في التعامل مع الأشياء من حولها :ــ
(( هذا العالم الكبير
بكلّ اتساعه
يتكوّر في أحضاننا
كطفلٍ وليد !! )) ص51
وفي مكان آخر نقرأ :ــ
(( هذه المدن المبنية بالدموع
المغلفّة بالبكاء
المؤثثة بالحروب
المسوّرة بالغضب
والخسارات والجنائز
متى تقرع أجراسها
إيذاناً بالزوال ؟! )) ص55
هذه الصورة التي ترسم مدناً نسكنها ونقرأ عنها الكثير وهي تشتعل بكل دقائقها حروبا وموتً تمنحك إجازة القبول بالدخول اليها من حيث الشكل لا الأبواب لأنها بنيت بطريقة أخرى ،، إنها مدن الخراب ،، كذلك نقرأها ترسم الإنسان جماداً والجماد كائن حي :ــ
(( لذا لا أتعالى أبداً
على هذه الحكمة المقدسة
ألبته
مرّات يتحول الإنسان وردةً
وأخرى تتحول الوردة الى إنسان )) ص58
كما نقرأ أيضاً :ــ
(( ننسجُ سماءً من دموعنا
تكفي لأحلامنا المؤجلة )) ص62
عبر هذه الرحلة الممتدة على مساحة 100 ورقة من القطع المتوسط جعلتنا الشاعرة ابتهال قاسم نقف أمام تمردها الذاتي ــ الثأر لذاتها الأنثوية ــ أو للكائن الحي الذي يقاسمنا الحياة أمام كل الضغوطات والتحديات واستلاب الشخصية التي مارسها ويمارسها الآخر ــ الذات الكورية ــ أو الرجل منذ بدء الخليقة وليوم الناس هذا وصورت لنا ما يحمله هذا الكائن ــ الأنثى ــ من رقّةٍ ووداعةٍ ورومانسية كبيرة تغطي على كل ما يريد أن يرفع الآخر من سلاح ،، كونها ــ اقصد المرأة التي تنطق الشاعرة بذاتها تحمل الوفاء والود للآخرين رغم كل شيء :ــ
((استبدلت نافذتي بالأفق
في انتظار طيور
صغيرة ملونة
تنثر الود والوفاء )) ص94
بقصائدها الأربعين رسمت خطا شاقوليا لتعطينا صورة عن عنفوان المرأة وعدم رضوخها لهيمنة وطغيان الرجل الذي يحاول النيل منها ، ليأخذ كل حلاوتها ورحيقها ثم يرميها على قارعة الطريق كأي سلعة تباع وتشترى .
إنها تقول :ــ أنا امرأة وعليك أن تتعامل معي وكأنني جزء لا يتجزأ عنك أبدا ،، اتماهى معك وأكون قريبة منك في السرّاء والضرّاء وسأصير لك أرق من نسمة لكنني أتمرد وأثور واخربش وازعق بوجهك إذا تصرفت تصرفا لا إنسانيا ،، عليك أن تحترمني وتعرف قيمتي وقدري في هذه الحياة كشريكة لك ولن أفارقك العمر وسأفتح لك طرقا وأبوابا وشبابيك للمحبة والسعادة والدفء .
ابتهال قاسم قدّمت نفسها بهذا الديوان صوتا أنثويا يدافع عن ذاته أمام ذكورية الرجل ، رغم إنها وقعت في بعض الأخطاء غير المقصودة من خلال نص أو نصين احتسبتهما على النثر وهما خاطرة إضافة الى نصين موزونين ــ قصيدة تفعيلة ــ لكن ما قدمته من نصوص نثرية و تجربتها الأولى تشفع لها وتجعلنا نغض الطرف عن هذه الهنّات وننتظر ما ستبوح به في قابل الأيام وما سترسمه ريشتها المبدعة من تعابير وصور !!