مذكرات الرئيس جلال طالباني

رحلة ستين عاماً من التكية الى قصر السلام
( لقاء العمر)
تضع “الصباح الجديد” بين يدي القارئ الكريم ما يمكن أن يوصف بمذكرات للرئيس الراحل جلال طالباني، وتتميز المذكرات وهي عبارة عن بوحٍ متصل للأستاذ صلاح رشيد، بأنها صورة مفصلة بل تشريح سياسي لمرحلة حاسمة في تاريخ العراق تشمل السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وحتى يومنا هذا.
وعلى عكس ما عُرِف عن مام جلال من دبلوماسية ونزوع نحو التسويات التي عرف بها خلال ثماني سنوات من جلوسه على مقعد رئاسة الجمهورية العراقية، فأنه على العكس من كل ذلك يدلي بآراء في غالبيتها إشكالية، ونحن لا نتحدث عن المعلومات وسرد المعطيات التاريخية لعلاقته بصدام حسين وفرقه المختلفة للتفاوض مع الاكراد، بل أنه يتجاوز الى العلاقة مع إيران وسوريا والولايات المتحدة وبقية الأطراف التي كان لها تماس مع الملف العراقي في مراحله المختلفة، لكننا نتحدث عن الآراء المتعلقة بالشخصيات التي رافقته خلال مرحلة بناء الاتحاد الوطني الكردستاني وتشكيله للبؤرة السياسية في اعقاب عام (1975م) وهزيمة الثورة الكردية أثر اتفاق الجزائر بين الشاه وصدام.
وتشكل المذكرات إنارة معمقة للطريقة التي اتبعها مام جلال في معالجته للتحديات والحلول التي خرج بها لتجاوزها، ولكنها لا تخلو أيضًا من اضاءة البعد الشخصي لمام جلال مما يساعد في نهاية المطاف الباحثين السياسيين والمواطنين على حد سواء العرب والاكراد على الاطلاع على أسرار لم يجرِ التطرق اليها في الماضي.
وغني عن القول أننا في “الصباح الجديد” نعدّ هذه المذكرات شهادة تاريخية من شأنها أن تستكمل المشهد السياسي العراقي الراهن، وهي تنطوي على مفاجآت وطرائف لا يمكن لأحد من خارج الدائرة الضيقة لمام جلال أن يطلع عليها.
“الصباح الجديد” سوف تنشر القسط الأساسي من هذه المذكرات، وهي لا تتحمل مسؤولية أي آراء قد تنطوي على بعض القسوة هنا وهناك، وستحاول تخفيفها بقدر الإمكان، ونأمل أن يتجاوب الساسة الكرام في كردستان وفي الفضاء العراقي من خلال هذه العملية ويسهموا بدورهم في إضاءة بقية المشهد.
الحلقة 9
إعداد: صلاح رشيد
ترجمة: شيرزاد شيخاني
بداية النشاط السياسي في الخارج
مهرجان وارشو وناظم حكمت
*كيف شاركتم في مهرجان وارشو للشباب، هل بناء على دعوة رسمية، أم بمبادرة منكم، وهل كنتم ضمن وفد الشبيبة الشيوعيين؟
– كان هناك مهرجانان شاركنا فيهما، الأول عام 1955 في وارشو، وآخر في موسكو عام 1957، شاع خبر في العراق بإنعقاد مهرجان الشباب الخامس، وجرى تشكيل لجنة سرية للمشاركة في مهرجان وارشو، وشاركنا ضمن الحزب الشيوعي كوفد مشترك من إتحاد الشباب الديمقراطي الكردستاني و إتحاد الطلبة الديمقراطيين التابع للحزب الشيوعي، وكان يفترض أن نحصل على جوازات السفر و التمويل اللازم لمصاريف السفر وكذلك لشراء الهدايا وتكاليف طبع البيانات. وكانت الأولوية عندي هي الحصول على الملابس الكردية والحذاء الكردي (كلاش) وغيرها، ونجحنا في جمع التبرعات وتأمين الملابس. وكان الوفد الذي إنطلق من سوريا يتألف من شكر مصطفى ونجيب الخفاف و المشكلة أن الإثنين كانا يملكان جواز السفر ماعداي، فأضطررنا الى تزوير جواز سفر الصديق محمد موسى صادق، حيث أزلنا صورته على الجواز ولصقنا صورتي، وقد فاد الجواز في عبورنا بالقطار من الموصل الى حلب ومنها الى دمشق، وهناك سجلت إسمي الحقيقي على الجواز وإتصلنا برفاق آخرين وإنطلقنا الى وارشو، وإنضم الينا هناك رفيقين آخرين.
كنا نرغب في أن نشارك في المهرجان كوفد كردي، ولكن الشيوعيين رفضوا ذلك، فذهبنا الى مقر إتحاد الشباب الديمقراطي العالمي لنشتكي، لكنهم أبلغونا بأننا لايمكن أن نشارك كوفد كردي مستقل، عليه توصلنا الى حل وسط وهو، أن نحسب على وفد الشيوعيين على أن تكون لنا حرية إجراء اللقاءات و توجيه الدعوات للوفود المشاركة و تقديم الهدايا بإسم و فدنا.

* وماذا عن دوركم الشخصي في ذلك المهرجان؟
-عندما وصلنا الى وارشو وقع حدثان لافتتان للنظر أود أن أرويهما للتاريخ، كانت هناك فتاة عربية تدعى بشرى برتو وكانت قيادية نسائية وعضو في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وهي فتاة راقية ورائعة الجمال، بمبادرة منها إرتدت الزي الكردي و شاركتنا بدبكاتنا الكردية، وكنا شاكرين لها تلك الإلتفاتة الكريمة وكان هناك شاب كردي يدعى محمد محمود عبدالرحمن الذي عرف فيما بعد بإسم (سامي عبدالرحمن) القيادي المعروف بالبارتي لاحقا، جاء وهو يعتمر عقالا عربيا ويقول بأن “مشاعره عربية خالصة “ولم يرتد الزي الكردي مثلنا، وجاء شاب آخر أيضا يدعى نوزاد نوري عبه من أهل السليمانية يضع بدوره عقالا عربيا على رأسه.هؤلاء جاءوا ضمن وفد الشيوعيين الذي أراد أن يوهم الآخرين بأنه يمثل أطياف المجتمع المتعددة، وكان الأمر كذلك، حيث شاركنا نحن الوفد الكردي و وفد الحزب الشيوعي و جماعة راية الشغيلة كوفد موحد رغم أننا كنا نمثل ثلاثة إتجاهات ىسياسية مختلفة.
تم ترشيحي كنائب لرئيس الوفد العراقي وكان رئيسه قيادي عمالي يدعى صفاء الحافظ أستاذ كلية الحقوق الذي قتله البعثيون فيما بعد، وقد ساعدنا كثيرا وعرف عنه بأنه أحد عقلاء الحزب الشيوعي ومنفتحا على القضية الكردية، وعاش في باريس لفترة، وهو الذي شجعني على التحدث في المهرجان وقال لي “إذهب وقل لهم بأن هذا هو مهرجان شبابي وليس مؤتمرا للأحزاب الشيوعية في العالم”! فيما كان كريم مروة نائب السكرتير العام للحزب الشيوعي اللبناني والذي يتولى مسؤولية منطقة الشرق الأوسط في الإتحاد العالمي للشباب يعارضنا بشدة ويعرقل نشاطاتنا.أما السوفييات فقد ساندونا، وكان هناك شخص يدعى رومانوف دافع عنا بقوة وقال بأن الكرد لهم خصوصيتهم القومية كشعب. كما كان هناك شاب شيوعي هندي وقف الى جانبنا أيضا. بإختصار نجحنا هناك في أن نطرح أنفسنا كوفد يمثل شعبا له خصوصيته القومية، وإستطعنا أن نعقد الصلات مع الوفود المشاركة ونتلقى منهم الهدايا ونتباحث معهم، ومما ساعدنا أيضا بهذا المجال هو إجتماع عقدناه كوفد كردي إستدعينا له ممثلي عدد من البلدان الكبرى مثل الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واليابان وأندنوسيا والهند والبرازيل ومصر، وشارك ياسر عرفات أيضا الذي جاء الى المهرجان بإسم الوفد الفلسطيني وكان آنذاك طالبا في القاهرة.

* من غير هؤلاء بمن إلتقيتم من الشخصيات العالمية في المهرجان؟
– من أهم اللقاءات في المهرجان كان لقاؤنا بالشاعر التركي الكبير ناظم حكمت الذي رحب بنا بحرارة بالغة وقبلنا جميعا، وكان سعيدا جدا ومتعاطفا معنا، وقال “أنا أحب الأكراد كثيرا وسأشارك في إجتماعكم” وكانت مشاركته لفتة كبيرة منه لأن في ذلك الزمن كان الكثيرون يودون لقاءه وإنتزاع توقيعه كشكل من أشكال المباركة والتفاخر. جاء الى إجتماعنا وألقيت خطابا رحبت به، وألقى بدوره خطابا متحدثا عن الظلم الذي لحق بالكرد، وقال “حق تقرير المصير هو حق طبيعي للشعب الكردي، فيجب أن يعيشوا مثل سائر الأقوام والشعوب في هذا العصر متمتعين بحقوقهم” وختم خطابه بالقول “أشكر دعوة الأخوة الأكراد لي، ولكن لي عندهم رجاء وهو أن يدعوني الى بلدهم حين يرفعون علم كردستان الحرة كي أشاركهم هذا العيد”. وهكذا تغيرت أجواء المهرجان برمتها الى صالحنا.
كانت لمشاركته وخطابه أهمية قصوى لأنه كان معروفا على النطاق العالمي، وتلاه السوفييت والصينيون الذين ألقوا بدورهم خطبا تحدثوا خلالها بإيجابية عن النضال الكردي. ففي البداية تحدث الممثل الصيني وكنت أعرف بعضهم سابقا ولم يكونوا قد سمعوا بإسم كردستان، ولكن بعد هذا الإجتماع جاءنا رئيس الوفد الصيني وقال “بإسم 120 مليونا من شباب الصين نؤيد نضال شعبكم من أجل التحرر و الإستقلال و حق تقرير المصير” وإثر الإجتماع قدمنا الهدايا للوفود المشاركة منهم شباب ألمانيا الديمقراطية و الصينيين، وهم قدموا لنا عددا من الدراجات الهوائية على سبيل الهدية. لقد كانت فرصة جيدة لنا للتعرف بشباب العالم، و هناك كنت أستغل كل فرصة سانحة لأزج بالمسألة الكردية ضمن خطاباتي و أحاديثي مع الوفود المشاركة، وهذا المهرجان ساعدني كثيرا في التعرف على العديد من الأوساط العالمية، ولذلك تلقيت دعوة من الصين لزيارتها.

السفر الى الصين
* هذا يعني بأن سفركم الى الصين جاء نتيجة مشاركتكم في مهرجان وارشو؟
– نعم هو كذلك، فقد تم توجيه الدعوة الى شخصين في العراق، الأول بإسم إتحاد الشباب الديمقراطي العراقي، والآخر بإسم إتحاد شباب كردستان و ترشحت أنا لتلبية الدعوة.سافرنا بالقطار من وارشو الى الصين وإستغرقت الرحلة عدة أيام، قضينا منها ليلة في موسكو ثم أكملنا السفر بالقطار السريع.

* وماهي النشاطات السياسية التي قمتم بها هناك؟
– شاركت في جميع الفعاليات السياسية هناك.ذهبت الى إتحاد الأدباء وعرفتهم بنفسي كأديب وكاتب.. و ذهبت الى إتحاد الطلبة و الشباب بصفتي طالبا..حتى انني ذهبت الى إتحاد النساء هناك وقدمت زيا كرديا ملفوفا بعلم كردستان الى السيدة (صن يات سين) نائبة رئيس الجمهورية و كانت سيدة رائعة، و قدمت لها الزي وسط إجتماع كبير وكان لذلك صدى واسع..المهم أنني في جميع لقاءاتي كنت أرتدي الزي الكردي التقليدي و أعلق على ياقتي علم كردستان.

* ثم أين ذهبتم؟
– أمضيت شهرا هناك، ثم عدت الى سوريا، قبل أن أشارك لاحقا في المهرجان العالمي للشباب عام 1957 في موسكو.

مهرجان شباب موسكو
* وكيف شاركت في مهرجان موسكو على الرغم من عدم توجيه الدعوة اليك؟
– لا، ليس الأمر كذلك.. فقد كان في العراق لجنة تحضيرية للمهرجان وتجتمع في دمشق، وكان التنسيق قائما مع اللجنة التي توفد الشباب، وكنت ضمن اللجنة التحضيرية تلك وأذهب الى دمشق.

* هل كانت لدى الحكومة العراقية وفود حكومية للمشاركة في مثل هذه الفعاليات العالمية؟
– كلا..كانت الحكومة ضد مثل هذه المشاركات عموما. ففي ذلك الزمن كانت هذه المشاركات تعتبر تعاطفا مع الشيوعية وكان هذا كفرا بنظر الحكومة، وكانت المشاركة بالأساس تجري بصورة سرية، ولا تنشر صورها وتفاصيل فعالياتها في وسائل الإعلام، فكل من تثبت مشاركته يتعرض للمحاكمة، وكنت واحدا منهم، أحلنا أنا وعدد من الشباب الشيوعيين الى المحاكمة فعلا بعد أن شككت الحكومة بنا، ولكننا أنكرنا ذلك فنجونا.
مشاركتي في هذا المهرجان كانت أصعب، لأن صورة الجواز الذي سافرت به سابقا قد تغيرت مرارا وهي بالأصل صورة محمد موسى صادق، إستخدمه بعدي حبيب محمد كريم لأنه كان بدوره مرشحا للمشاركة في المهرجان، وعليه فقد بدا واضحا بأن الصورة قد أزيلت وزيفت مرارا، لذلك قررت السفر هذه المرة عن طريق بري عبر قضاء سنجار لأنه طريق أسهل.وصادفت هناك شابا إيزيديا هو شقيق معاوية إنضم الى البارتي منذ فترة، لكنه عمل كجاسوس للحكومة، لذلك أراد أن يسلمني للسلطة، لكني تحايلت عليه ونجوت من مكيدته فسلمت نفسي الى السوريين، وكانت معي حقيبتان من الهدايا، وقلت للسوريين انني ذاهب الى مهرجان موسكو للشباب.فنقلوني من نقطة الحدود الى القامشلو وأبلغوني أنهم لن يطلقوا سراحي قبل إجراء التحقيقات الأمنية معي.فطلبت منهم أن أجري إتصالا هاتفيا فسمحوا لي بذلك، فهاتفت منزل السيدة روشن بدرخان وأبلغتهم بوضعي. وفي ذلك اليوم نقلوني مكبلا الى الحسكة، ويبدو أن إتصالي بالسيدة روشن قد أفاد حيث إتصل ضابط كردي سوري برتبة عقيد يدعى محمد وله نفوذ واسع في السلطة، وأبلغهم بإطلاق سراحي والسماح لي بالذهاب الى دمشق، فجاء أحد المحققين في المساء وسألني “هل تريد أن نطلق سراحك الآن أو تريد ذلك غدا صباحا”؟ فقلت له “أريد الخروج الآن.وفي تلك الساعة المتأخرة لم تكن هناك بطبيعة الحال أية وسيلة للسفر الى دمشق، لا قطار ولا سيارات أجرة”، فسألت المحقق “كيف يمكنني السفر الى الشام”؟ قال “ليست هناك سوى سيارات الحمل الكبيرة التي تنقل الحبوب أو الأحمال، فإذهب وقف على الطريق العام شاور على السواق عسى أن ينقلك أحدهم إذا كان لديه مقعد أمامي شاغر، وإلا عليك أن تصعد الى سطح السيارة وتمشي حالك. وهكذا بعد ساعة أوإثنتين جاءت سيارة وأشرت لها فوقف السائق وقال “ليس عندي مقعد شاغر في الأمام، فإذا تريد إصعد الى السطح”، وهكذا صعدت للسطح وإنطلقنا نحو دمشق، وإستغرقت الرحلة طوال ساعات الليل ووصلنا حلب عند الظهيرة، فنزلت لتناول الكباب في مطعم قريب من الكراج ثم إستأنفت سفري بالسيارة الى دمشق.

* وكيف وجدت أعضاء الوفد العراقي هناك؟
– حين وصلت الى دمشق لم يكن لدي أي عدة سفر، لاجواز ولا ليزاباص، فذهبت الى الوفد العراقي وإشترطوا حصولي على الجواز أو ليزاباص وإلا يتعذر علي السفر.وفي الحقيقة وجدتهم لا يرغبون بمرافقتي لهم، وفي محل إجتماعهم صادفت عبدالقادر إسماعيل البستاني وعبدالجبار وهبي المعروف بأبي سعيد وجورج تلو، وقلت لهم انني أحتاج الى مساعدتكم للسفر، فردوا علي “بأنهم لايستطيعون فعل شيئ من دون حصولي على جواز أو وثيقة سفر”. فأضطررت الى مهاتفة العقيد محمد الكردي وشكرت مساعدته بإطلاق سراحي، وأبلغته بأنني أواجه مشكلة أخرى، فوعدني خيرا وقال سنلتقي غدا وحدد لي مكان اللقاء. وجاء في الموعد المحدد بسيارة تحمل علم الدولة السورية وأخذني معه الى الدائرة التي تصدر الليزا باص، وكان هناك ضابط برتبة رائد حيث قام فورا من مقعده مؤديا التحية العسكرية للعقيد وأخلى مكانه له. وطلب العقيد منه أن يصدر وثيقة ليزا باص بإسمي، وأردف “جلال سيقدم لكم عريضة للحصول على الوثيقة، وأنا سأخذه الى رئاسة الجمهورية وسأجعله لاجئا سياسيا بشكل قانوني”!

* يعني بعد معاناة طويلة أصبحت حائزا على وثيقة سفر؟
– نعم، فالرائد رد على العقيد بالموافقة وعلى وجه السرعة صوروني ثم أكملوا إجراءات منح الليزاباص ووضعته بجيبي. ومن تلك اللحظة أصبحت حاملا لليزاباص سوري وأصبحت قادرا على السفر الى الخارج متى أشاء. وطبعا لم أتحدث الى الشيوعيين بذلك، لأنني توقعت أن يخلقوا لي مشكلة أخرى، لذلك ذهبت اليهم وسألتهم “حسنا، قولوا لي ماذا أفعل الآن”؟ قالوا: “لانستطيع أن نأخذك معنا دون جواز او ليزاباص”، وكانوا يظنون بأنه يستحيل علي الحصول على ليزاباص، حاولت أن أغشم نفسي فسألتهم “وماهي ليزاباص”؟ فأخذوا يشرحون لي ذلك، فقلت لهم “إذن سأذهب للحصول عليها”؟
في ذلك الوقت صادفت بعض الرفاق منهم الأستاذ عبدالحميد درويش في منزل السيدة سينم خان إبنة جلادت بدرخان، وكان معه كل من الشاعر هزار موكرياني وعبدالرحمن زبيحي، وإتفقنا على إشراكهم جميعا في المهرجان، ولكن للأسف لم يقبلهم أحد لا الوفد العراقي ولا الوفد السوري!ولذلك قرروا السفر مع سينم خان عن طريق آخر عبر ألمانيا ثم موسكو، ولكن لم يسمح لهم السفر من ألمانيا فعادوا الى دمشق بعد أن تجشموا عناء كبيرا في طريق سفرهم هذا. ولكن معاناتي إنتهت ولم أتحدث لأحد بذلك حتى حلول موعد السفر. لقد حزموا أمرهم للذهاب جميعا الى اللاذقية والسفر من هناك، فذهبت اليهم وسألتهم “إذن، لقد حسمتم أمركم وتتركوني هنا وحيدا أليس كذلك”؟ قالوا “نعم، لا نستطيع أن نأخذك معنا مادمت لم تحصل على الجواز أو الليزاباص”. فأخرجت الليزاباص من جيبي وقلت لهم “حسنا، خذوا هذه هي الليزاباص”، فوجئوا جميعا وإستغربوا كيف تمكنت من الحصول عليها. وهكذا صعدت معهم على متن الباخرة المتوجهة الى البحر الأسود والدردنيل ثم أوديسا، وهناك إكتمل شمل جميع الوفود العربية القادمة من السودان ولبنان والاردن والعراق ومصر. وأتذكر بأن الباخرة كانت تسمى “غروزيا” وهي باخرة سوفيتية، وكنت في السابق قد ركبت باخرة بنفس الإسم. إنطلقنا من اللاذقية نحو “كوستانسا” وهي ميناء روماني، ومنها سافرنا بالقطار الى بودابست ثم بوخارست وأخيرا حطينا الرحال في موسكو. أما العودة فقد ركبت الطائرة من بكين الى موسكو ومن هناك الى فيينا ثم دمشق.
وفي موسكو كان بإستقبالنا في المحطة جمع من كرد روسيا يتقدمهم قناتي كوردو، حيث كنا نرتدي الزي الكردي فعرفونا فورا وسعدوا جدا برؤيتنا هكذا، حتى ان قناني كوردو تغنى ببعض الأبيات الكردية ترحيبا بنا.وفي موسكو أصررنا مرة أخرى على أن يكون وفدنا ممثلا لشباب كردستان وعلى نفس منوال مهرجان وارشو من حيث لقاءاتنا الخاصة وإستقلاليتنا، ووافقوا على ذلك.

*هل تم قبول عضويتكم في إتحاد الشبيبة العالمي؟
– لا لم يقبلونا، بل كانت دعوتهم لنا فقط بصفة عضو مراقب، في أول يوم وصولنا الى موسكو بدأنا بنشاطاتنا، وكنت أبحث عن أي شخص كردي يستطيع أن يوصل صوتنا الى الملا مصطفى ورفاقه، وأفلحت في العثور مرة أخرى على محمدعلي هاشم النجفي الذي وعدني بإيصال خبرنا الى الملا مصطفى.

* ولماذا لم تحاولوا الوصول إليه عن طريق الروس؟
– لقد حاولنا..ذهبت الى الوفد السوفييتي وقلت لهم بأنني فلان الفلاني عضو المكتب السياسي للحزب، رئيسنا هنا وأريد أن ألتقيه. وبالطبع كانت هناك كلمة سرية للقاء الملا مصطفى إتفقنا عليها منذ عام 1955 وكانت صلة الوصل بيننا. وقبل يوم من بدء المهرجان جرى إستعراض كبير شارك فيه جميع الوفود، فجاءنا شخصان يتحدثان باللهجة الكرمانجية، أحدهم كان سيد عزيز شمزيني.وكان وفدنا يتألف مني ومن جبار بيروزخان محام من كركوك إستشهد على يد البعثيين فيما بعد، وعمر دزةيي، نجيب الخفاف، الشيخ علي بامرني وعدد من الشباب الشيوعيين منهم دارا توفيق، الدكتور أحمد عثمان، حمةحسين ملا دزةيي، ونسرين خان زوجة الدكتور عبدالرحمن قاسملو التي جاءت ضمن الوفد الإيراني. سألنا سيد عزيز “هل أنتم من كرد العراق”، فأجبناه بنعم، وعرفناه بأنفسنا ، ثم سألناهما ومن أنتم؟ فقالا “نحن من كرد السوفييت،حينها نحاني علي جانبا وقال “هذا أعرفه، إنه سيد عزيز شمزيني، تعرفت عليه حين كان ضابطا في الجيش العراقي وعملنا معا في حزب هيوا، وأنا متأكد بأنه هو نفسه”، فقلت فورا “أهلا بالسيد عزيز، لماذا تتنكر علينا وتعرفنا بنفسك ككردي سوفيتي”، وكنت قبلا قد سألت الشخص الثاني المرافق له والذي تبين بأنه الدكتور مراد، فرد علي بدوره أنه كردي سوفيتي، عندها وجهت كلامي للسيد عزيز وقلت له “وأنت أيضا من كرد السوفييات”؟ فرد علي: أي نعم! لكن بدا واضحا لي بأنه يتحدث باللهجة الكردية الإيرانية لذلك تيقنت أنه هو وليس غيره، فقلت له “لماذا ياعزيزي تخفي عنا شخصيتك”؟ في تلك اللحظة جاء الشيخ علي وخاطب سيد عزيز قائلا “ألا تتذكرني أنا فلان لقد عملنا معا”، وهكذا كشفنا هوية سيد عزيز الذي طلب منا إخفاء شخصيته وقال “أرجوكم لا تقولوا لأحد أنني عزيز”، فأجبته “حسنا، ولكني أريد أن ألتقي بالملا مصطفى”. فقال سيد عزيز “نعم الملا موجود هنا، لكن لقاءه مرتبط بموافقة الروس، فإذا سمحوا بذلك يمكننا أن نرتب الأمر، و وإلا سنبحث عن طريق آخر”.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة