مناهل السهوي
ماذا يوجد في النوم؟ إلى أين نرحل؟ على ماذا نفتح عيوننا الداخلية بينما نغمض تلك الخارجية؟ هل نذهب كلنا إلى ذات النقطة أم أننا نتبعثر في أجزاء قصية من دواخلنا؟ في النوم هنالك شخصٌ آخر يستيقظ فينا، ذلك الموازي غير المباشر للموت يعيد صياغة الأجساد لتغدو هشّة وخاماً، من هنا انطلق الفنان السوري أنس البريحي في معرضه (صائد الأحلام) الذي عرض في غاليري أجيال / بيروت من 13 سبتمبر/ أيلول وحتى 6 أكتوبر/ تشرين الأول.
بعد معرضه (منال) والذي تناول فيه جارته المصابة بمتلازمة داون حيث قدم تجربة إنسانية عبر علاقته الخاصة بها والثقة التي بناها الرسم بينهما لتكون اللوحة أحد سُبل العلاج بالفن، في هذا المعرض وإن حاولنا التقاط تجربة أنس الخاصة فهو لم يبتعد في الجوهر عن هذه الإنسانية الصرفة التي لا يعكرها لا الخوف ولا الحقد ولا انتظار القادم، فالنائم هو مستسلم تماماً، وسؤال أنس هو لأيّ شيء نستسلم في نومنا؟
استعاد البريحي (1991) الذي يحمل درجة الماجستير في علم النفس والعلاج عن طريق الفن بذكاء اللحاف ليجعله انطلاقة للأجساد المخبأة تحته، الشيء الذي يكسونا خارجاً خلال رحلتنا الليلية، لا يمكن تخيل نوم عميق وهانئ دون لحاف ثقيل يحتوي الجسد وينقله بعيداً، لحاف أنس هو ذاك القديم الذي يعود لمنطقة الشرق، ذو الألوان الزاهية والمزركشة، في حميمية خاصة مع ذاكرتنا الجمعية في المنطقة، اللحاف الثقيل والآمن، الغطاء الذي يفصلنا عمّا حولنا، صُنْعُ مكانٍ آخر داخل المكان، شيء أشبه بالعزلة والحماية والانفصال عما حولنا يقول أنس «اللحاف هو المعنى الظاهري الملموس للغطاء أما الذي أشعره فهو يقبع بالعمق، لن تساعدني لغتي العربية والتشكيلية في التعبير عنه».
في الوقت نفسه النوم هو موضوع مغرق في تأويلاته فهو من تلك المواضيع البسيطة لكن المركّزة على الذات الإنسانية وكينونتها، صائد الأحلام هو رحلتنا وحيدين في أعماق العالم الآخر للنوم، ابتساماتنا التي نطلقها دون معرفة السبب أو حتى صرخاتنا استنجاداً بأحد ما بعيون مغمضة تماماً وكما تقول «ناتاشا غاسباريان» عن المعرض فإننا بتنا نخسر مفهوم النوم فهو يقل بسبب الحياة الجديدة ومتطلبات العمل، نخسر علاقتنا بالنوم، تلك الساعات الطويلة التي يجب أن نغمض أعيننا فيها بتنا نختصرها بعدة ساعات وحسب، والبعض لا ينام مطلقاً، المحال التجارية تفتح أبوابها أربعاً وعشرين ساعة، وهذا كذلك تشويه لمفهوم النوم.
استخدم أنس ألواناً عكست الدفء والأمان والاستقرار للإنسان النائم، الذي انتقل إلى عالمه الخاص بعيداً عن كل الفوضى والخسارات، ما أظهر دواخل هؤلاء الأشخاص وسط عالمهم الهانئ.
بدأت رحلة أنس مع فكرة النوم من خلال مراقبة شركاء سكنه مستغرقين في النوم متسائلاً عن الحد الفاصل بينه وبينهم، أين هم؟ وكيف نستسلم للنوم وكأننا ما عدنا نريد شيئاً من الحياة؟ هذه التساؤلات بالإضافة إلى علاقة البريحي الحميمية مع ماضيه في مدينة السويداء مع اللحاف والغطاء والنوم خلقت لديه رؤية داخلية لما يبحث عنه في معرضه الجديد فالعيون المغمضة ترى أيضاً أشياء تعجز عنها العيون المفتوحة، من جهة أخرى يخلّص النوم البشر من التزييف والعوالم التي يخلقونها فالكلّ متساوٍ في هذه اللحظة الفقراء والأغنياء، الأطفال والكبار، إنه كما الموت يبسِط قوته على الجميع دون استثناء، يقول أنس: «يمكن أن نمثّل أننا على قيد الحياة، لكن من الصعب أن نمثل أننا نائمون»، وربما واحد من عناصر قوة اللوحات هي هذه الحقيقة المؤلمة، الصادقة والأليفة، فشخصيات أنس نائمة حقاً، تشعرك بالهدوء وبالسكينة التي يتركها الجسد المستغرق حوله، فالنوم هنا ليس الجسد وحسب إنما أيضاً الكادر بالكامل وانتقال النوم إلى العناصر المحيطة به، فتغدو الأحذية والأشياء المتروكة من حوله عناصر للنوم، فهي آخر ما يربط هذا الجسد بالعالم المستيقظ، هي أشياء التعب والرغبة في الاستراحة.
أوجد البريحي بذكاء الرؤية الفلسفية التي تنطوي عليها أعماله، التكلم عن الحدود الفاصلة بين الواقع والمجهول، بين المكتشف وغير المكتشف، بين الحياة والموت الذي يمثله النوم بشكل حذر، استسلام الإنسان في النهاية دون إبداء أي مقاومة للتعب وللنهاية، أليس النوم نهاية من نوع ما؟ عتبة لا نعرف ما يكمن خلفها لكننا نحتاجها ونخطو نحوها دون أي مقاومة.
معرض البريحي هو سؤال وجواب في الوقت ذاته وكأن التخلص من الحياة وعبئها لا يحتاج سوى الاستسلام للحظة نوم، لنعبر صخب الحياة نحو عالم الأحلام الواسع.