علي سعدون
يقينا ان الاعمال الشعرية التي تلفت الانتباه وتأخذ حيّزاً من اهتمام القارئ، ستحمل معها، دلالات مختلفة واشارات متعددة، وبالتالي فهي تثير فيك الكثير من الأسئلة بسبب من الاهتمام بشعريتها وفق بناء يكاد يكون متقناً، وبسبب من رصانة الأداء أيضاً. وستأتي هاتان الميزتان لشعر دون سواه بسبب جدية الاشتغال والحرص على انتاج نصوص لا تريد لنفسها أن تنتظم في بوتقة السائد الشعري. وسينبثق لدينا هنا سؤال مفاده : ما الذي يميّز النص الشعري المغاير عن سواه..؟ مالذي يجعله متوهجاً أكثر من المعتاد، ليتحقق بذلك زعمنا أو ادعاؤنا بأهميته عن غيره ؟ وسيتضمّن الجواب بشكل حاسم، الكيفية التي تنشط فيها حفريات النص في اللغة ذاتها، أعني اللغة التي يُكتب بها نصين أحدهما يلمع والآخر يضعف توهجه.
اسوق هذه المقدمة التي تشير الى تمايز النصوص بعضُها عن البعض الآخر بمناسبة قراءة تحليلية ووصفية لمجموعة الشاعر هلال كوتا «رصاصة ليست للحرب»(1) وهي المجموعة البكر التي يريد «كوتا» من خلالها ان يضمن لنا فسحة من اللغة المائزة التي تفتح روحها على دلالات فكرة الشعر الأولى – الانبثاق في محاكاة الوقائع -. إذ لا يمكن ان نتعرّف على ملامح شعر حقيقي دون يكون هو ذاته مهتماً ومنغمساً في تداعيات وقائع التاريخ واليومي؛ ما يخصنا وما يلامس أوجاعنا في الفكر والسياسة والدين والفن والتثاقف بصورته العامة. ومن غيرها يصبح النص – اي نص –، غير جدير بالقراءة على الاطلاق. ذلك أن الشعر بطبيعة الحال، فنٌ من فنون التعبير التي تحتمل الكثير من الرمزيات والايحاءات وهو بذلك نشاط ثقافي وفكري ينشد انتاج المعنى العميق في الكتابة، وسيعني ذلك ان الرمزيات والبوح بالإيحاء أو التلميح سيصب في نهاية المطاف في معنى من المعاني، وكلما شطّت تلك الرمزيات، صارت طلاسم وأُحجيات ورموز لا فائدة منها. وكلما انزاحت تلك الاشارات وفق القيم الشعرية في النص صارت أكثر اهمية، واكثر انتصاراً للمعنى..
في هذه المجموعة الشعرية التي تضع نفسها في حفريات مختلفة، سنرى إلى التلقي الذي يريد لقصيدة المشهد أن تكون بديلاً عن النص الذي يقتطع لنفسه مساحة من التغاير من خلال العبارة الواحدة، أو الجملة الشعرية الواحدة. والاخير هو الأسلوب الذي درجت عليه معظم مدونات قصيدة النثر العراقية في مختلف ظواهرها وتعاقب اجيالها. ذلك أن المعنى الذي تصنعه المشهدية في الشعر، يتيح للنقد الثقافي – على سبيل المثال -، أن يتحدث عن النسق المحيط بالنص، بينما سينشغل نص العبارة الشعرية الواحدة بالجماليات وحدها. وستختلف حفريات المنطقتين في الكتابة اختلافاً كبيراً، وستنطلق اهمية المشهدية التي يتبناها هلال كوتا من هذه العتبة التي تشي بوعيه في بناء النص. باعتبار البناء هو المعمار الذي ينتظم فيه النص ليحقق من خلاله بالمحصلة النهائية، شكله النهائي الذي يشترط توفره على مضمون يليق بمستوى البناء.
واذا كان الشاعر قد استثمر المشهدية الكلية في بناء النص، فأنه قد عمد إلى استثمار الوقائع التاريخية كجزء من حتمية تريد أن تقوم بترسيخ ديمومة الفعل الانساني في الوقائع العراقية الأكثر حراجة مما حولها، ذلك الفعل المزدان بإحباطات لا حصر لها، وانتكاسات لا يمكن ان تستوعبها ثقافة تعكس نفسها في القيم الابداعية للنصوص الشعرية. الامر الذي يحاول من خلاله «هلال كوتا» ترسيم حدود ذلك المعنى منذ عتبة العنوان الرئيس للمجموعة، وليس انتهاء بلغتها التي تحفر عميقا في الدلالة والمعنى. وسيتساءل الباحث هنا عن وظيفة الرصاصة التي تنكر دلالتها ومعناها الذي يتجه الى الحرب بالتأكيد.!! فأية رصاصة تلك التي تنطلق لفعل آخر لا يحمل معه العنف المتولد من دلالة العنوان. الرصاصة اذن عند «كوتا» فعل مغاير للحرب، انها كلمة متضادة مع الكلمة الاصل، وهي ليست رصاصة بقدر ماهي الفعل المناهض للسيرورة التي يدفع بها المعجم وتحطمها دلالة المعنى : هكذا.. كما يجدد النور اشتياقنا / وتبدد الظلمة / عتمة أرواحنا / أراك تنثر ضحكاتك على الطرقات / ورغم كل تلك الخسارات كنتَ رصاصة ليست للحرب .- هذا المجتزأ من نصه «هكذا رأيت» وهو يحمل اهداء وخطاباً محمّلاً بدلالات شتّى إلى روح الشاعر محمد علي الخفاجي، إذ بوسع هذا الاهداء أن يحل شفرة العنوان باعتباره عتبة اولى يتوخى هلال كوتا من خلالها رسم المغزى العميق لرمزيات من هذا النوع ستاتي بحمولات فكرية وحياتية لا حصر لها. وسيفتتح هذا التأويل ابواباً اخرى وفق المتوالية الرمزية ذاتها :
«يحبهم الله / أكثر من حبهم الى مواشيه / مذ عرفوه / أدمنوا الأرض / ألثموها بالمعاول / هؤلاء أخوتي / أتعبهم الجنوب كثيراً / هم أخر ما تبقى / بعد أن نفذ الرصاص»
إن اهم ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة، هو اصرارها على المناخ المحلي – العربي – لقصيدة النثر، دون الاتكاء على تقليد النموذج الغربي الذي انبثقت عنه قصيدة النثر العربية. جذورها الفرنسية والانكليزية .. الخ . بوصفها الوريث الحتمي للنثر العربي بنسختيه الصوفية والعادية بحسب ادونيس. إذ يتصاعد هذا الفضاء المحلي في حفريات اللغة من خلال اعتماد المشهدية العالية في بناء النص. النص (حكاية) متوهجة بنثر يسطع كلما توافرت فيه اشتراطات الشعرية العربية. وسيأتي مصطلح الحكاية هنا مترادفاً مع السرد الذي تستثمره قصيدة النثر إلى اقصى مدياته لتحقيق – مشهدية متكاملة-. الأمر الذي تستثمره تجارب شعرية ليست واسعة ولم يتصاعد اوار اداؤها كثيراً، وهلال كوتا سيمثل أحد نماذجها في تأكيد عربية ذلك النص. وبتقديري الشخصي البسيط، ان ادعاء عربية النص، لن يكون غريباً إذا ما استحضرنا طريقة التعامل مع حساسية الخطاب الشعري وفق الفرضية التي نشير لها في هذا المبحث، وهي تتكئ بادئ ذي بدء على نوع من المشهدية في البناء والمعمار، وبالنتيجة النهائية القصدية في اداء النص، وليس ببعيد عن ذلك كله، سيلفت انتباهتنا طريقة التركيب اللغوي للسحنة العربية لتلك القصيدة، اقول ذلك بسبب اصرار «كوتا» على اضفاء عربية النص فيما يزعمه على هامش كتابة النص. حيث لايحق لأي منّا أن يتنكّر إلى استحقاقات التجريب التي يخوضها الشاعر، ويشتغل عليها إذا ما امتلك صفة المشروع الشخصي في الكتابة :
لأننا سرقنا التفاح / من شجرته الوحيدة / وهو على يقيين بأننا مؤهلون / لسرقة كل ما على الارض / لذا .. كان من حقه / ان يسمي بيته الارضي / بالبيت العتيق ..
إن من اهم العناصر التي تشير إلى اهمية النص من عدمه، ستتجسد في الروح التي تنبعث فيه لتحقيق الانزياح، وتحقيق ارتفاع وتيرة لغته نحو تخوم التعبير الذي يتميز بفرادة البوح وندرة التركيب اللغوي الذي لن يعتمد الصورة التقليدية في الكتابة فحسب، انما سيعمد إلى تطويرها بنوع من المشهدية في بناء النص. النص بوصفه كتلة بناء واحدة، لا باعتبارات توزيعه إلى جملة شعرية هنا وجملة شعرية هناك.
( 1) هلال كوتا، رصاصة ليست للحرب، شعر، منشورات دار الحكمة ودار بابل للطباعة والنشر والتوزيع 2012