(محنة فينوس) مصداقا

تمظهرات (الديستوبيا) في الرواية العراقية المعاصرة
2 ـ 2
عبد علي حسن

ولم يتوقف الامر عند حدود المكان واهله الساكنين فيه وانما ينسحب الأمر على ( الآلهة ) والأباطرة الذين يحكمون (اثينا) فبقدر فسادهم وشنهم للحروب ومايلحق بأهلها من ويلات وكوارث فإن ذلك يصيب تلك المدينة بالخراب ( وهل يمكن الفصل بين مدينة وآلهتها، او اباطرتها المتسيدين على مدينة ما ، لهم مصير مشترك مع مدنهم …. النص ص20) ومن الممكن عد تصرف الآلهة والأباطرة هو الفيصل في ظهور المدينة الفاسدة بالمعنى (الديستوبي ) ، فكل النزاعات بين الآلهة للسيطرة على ( أثينا) سيتبعه فساد وخراب متوال ينتقل الى المدينة كظاهرة مكانية والى نفوس اهلها ، لذا فقد تشكلت بنية الفساد في (أثينا) كمدينة عبرتخليق الحلقات المتتابعة ، فساد الآلهة – فساد المكان – فساد اهل المدينة ، فعلى أثر الخديعة التي لجا اليها (مارس) اله الحرب والدمار وغوايته لمضاجعة ( فينوس- المولعة حبا ب (كيوبد ) اله الحب- وزرعه بذرة في رحمها ، تنشب حرب ضارية بين ( زيوس) كبير الآلهة لينتقم من (مارس) ويعاقبه على فعلته مع ابنته (فينوس) التي ستعاني من محنة حمل الرجس في احشائها ، ولايدفع ثمن هذا الصراع غير أثينا وأهلها ، اذ لايعبأ المتصارعون بما حل وسيحل من خراب وفساد في هذه المدينة التي كان للنساء قبل ان يحل الخراب ( ساعات من الهناء والصفاء ، لعل بعضهن يتذكرن تلك الاوقات التي سرحن ومرحن فيها بين جذوع أشجار غابة نابولي أو عند سواقيها الفائضة بالمياه الصافية والتربة حسنة السقي والخضرة الدائمة ….النص ص 21) اما وقد اعلنت حرب المصالح والمكاسب والانتقام بين الآلهة فإن النساء صرن يبعن مالديهن من مصوغات وحلي لإطعام الاطفال فضلا عن بيع سمعتهن في اسواق النخاسة والدعارة ، اما الرجال الأتقياء فلم يجدوا أمام وحش المجاعة الذي لايرحم صغيرا او كبيرا سوى السرقة ، اذ تراجعت المباديء الخلقية لتحل محلها مظاهر الخروج على كل ماهو خير ومستهجن ، ولعل مظاهر الفساد في أثينا قد انتقل من الخراب الخارجي الى الكشف عن الخراب الداخلي الذي بدأ يتسلل الى النفوس والمباديء و محاولة شرعنة الخروج على تلك الثوابت التي كانت عليها اثينا قبل الصراع بين الآلهة بدعوى الإضطرار امام وحش المجاعة والفاقة التي سببها صراع الآلهة . فضلا عن التمظهر الواضح لسلطة كبير الآلهة (زيوس) وسدنة المعابد وجنوده ومجابهة أي محاولة للنيل من كبير الآلهة والمعبد ، وقد تبدى ذلك في سوق المعاندين من الشباب للإنخراط في صفوف الجيش او خطف وقتل من تسول له نفسه شتم كبير الآلهة والتعريض به ، وايقاع القصاص امام الملء في الساحة المركزية لأثينا ، وافساد محاصيل الزرع لمن يرفع صوتا معارضا لصوت زيوس ، وغيرها من المظاهر التي تكرس فساد الآلهة وكبيرها والسدنة الذين اطلقت ايديهم لاذلال الناس واجبارهم على الطاعة والامتثال لأوامر الآلهة ، وفي الجانب الآخر فهناك ( فينوس) آلهة الجمال و(كيوبد) اله الحب ، طرفان ايجابيان في معادلة صراع الآلهة ويصيبهما ما يصاب به أهل أثينا وهما على صلة طيبة مع الناس ويقفان دائما بجانب اهل أثينا ويشاركوهم محنتهم التي طالتهم من تصرفات الآلهة وسدنة وجنود المعابد . ولعل محنة فينوس هي ذاتها محنة أثينا وأهلها ، فقد كانت تريد التخلص من الرجس الذي زرعه فيها مارس ولكن عن طريق الحب – غرامها بكيوبد – تلك هي محنتها ، اما محنة أثينا فقد كانت ( ارضا لتجارب الحمقى والمجانين ينفذون فيها افعالهم ونواياهم ورغباتهم الرعناء ، لم يكف فينوس حزتها على أثينا…النص ص53) ، ويصل الراوي الى توصيف لحالة الخراب الذي حل بأثينا بعد حيازة مارس لصولجان زيوس – وهو رمز للسلطة – بخديعة مدبرة بين مينرفا ومارس ، وما آلت الأمور بعد هذه الحيازة ( الفوضى امرأة حبلى بالتعاسة ولاتورث غير الهم والغم ، الفوضى والغوغاء أسياد العوز والجوع المستشرين في ارض روما المهانة ….النص ص 49) فالفوضى هنا تحصيل لحالة منحرفة عن السياق الانساني نتيجة العوز والجوع ، وهي رد فعل لما يجري من فساد وخراب كشف عن مظاهره الراوي وصرح به أثناء جولته في أثينا بعد ان اطاح زيوس بمارس واسترجاعه للصولجان ( سرت على غير هدى ، وقد مررت ببنايات مهدمة وأخرى جاء عليها الحريق وأفنى بهاءها ورونقها بعد ان كانت قبلة للناظرين، فقد أصبح من الصعب رؤية الخراب الذي احال شوارع المدينة الى مزابل تنعم فيها الهوام والذباب والشحاذون واللصوص في الليل البهيم …. النص ص 141).
وعلى مستوى الروي فقد تصدى لرواية مجريات الصراع بين الآلهة للسيطرة على الاولمب وأثينا ومصائر الناس وما آلت اليه اسباب ونتائج ذلك الصراع هو الراوي كلي العلم وهو واحد من أهالي أثينا الذين شعروا بالأسى والحزن لما حل في مدينتهم ونفوسهم من خراب ، (اتخذت عهدا على نفسي بتسجيل كل شاردة وواردة تخص أثينا وآلهتها ، بعد الذي جرى وحصل…..النص ص12) ولعل الدور التدويني الذي سيضطلع به الراوي اشارة الى ان التأريخ يكتبه المنتصرون ليكون (نص السلطة ) او التأريخ الذي تكتبه السلطة وغالبا مايكون هذا التأريخ مزيفا وينحرف بإتجاه مصالح السلطة وتكريس لسلطانهم ، لقد ادرك الراوي هذه الخديعة وهذا التزييف المتعمد لحقائق ماجرى ، فتحمل مسؤولية ماحصل كونه خارج مظلة السلطة وانه من العامة الذين يقع عليهم وزر الحروب والنزاعات ، وبذا تكتسب هذه الروايات والوقائع المدونة صفة الصدق والحقيقية . فهو – الراوي – يعلن عدم ركونه الى اية مدونة او وثيقة لرواية ما جرى ( انني اروي لكم ما اعرفه…لم ادع عثوري على مخطوطة او أوراق دونت فيها حكاية الصراع الدامي…انما احفظ الكثير من الأخبار والحكايات المروعة ،قد يضطر بعض الرواة الى الكذب والتلفيق…..النص ص 51) ولعل في هذا التصريح ترحيل الى مهمة المؤلف (احمد خلف) للكشف عن دوره لتبطين نصه الروائي هذا موقفه المنحاز الى عامة الناس في وضع المعادلات الدلالية لما جرى في وطنه طيلة العقود الثلاث التي سبقت تحول 2003 ، وليمنح ما يرويه صفة الوثوقية والصدق لتكون وثيقة حقيقية لما حصل وما جرى ، فالمتلقي لن يجد عناءا كبيرا في الوصول الى مدلول الرواية التي كان فيها تخليق الفضاء الاسطوري برمته دالا حرص فيه الراوي كلي العلم على استحضار الوقائع والأحداث كواحد من الناس الذين عاشوا تلك المحنة وأثرها السلبي في خراب انفسهم وخراب وطنهم .
لقد تمكن الروائي أحمد خلف في مدونته الروائية هذه (محنة فينوس) من اعادة انتاج الاسطورة بما يتكفل بمعالجة مشاكل الحاضر عبر القرائن الدلالية التي كانت تثير ذاكرة المتلقي لاستدعاء مرجعياته التي شكلها المخيال الشعبي المترشح من اوضاع صراع السلاطين والحكام لبسط هيمنتهم على البلاد والعباد غير مبالين بما سيؤول اليه ذلك الصراع ، ولعل الحرية التي تمتع بها النص في التخليق السردي من خلال الحذف والأضافة قد اكسب الرواية ابعادها الفنية والأدبية بعيدا عن التوثيق والأرخنة المملة للأحداث ، وظل النص كاشفا عن قدرة الروائي في ادارة السرد والحفاظ على سير وتقدم المعادلات الدلالية ، وارى انه كان يكتب وهو مستحضرا الماضي القريب للعراق وتحديدا الثلاثة عقود المنصرمة أي فترة نظام الحكم الشمولي الذي تهاوى في نيسان 2003 ، كيما يبقى ماحصل راكزا في ذاكرة الفرد والجماعة عبر منجز ادبي غايته تفعيل السرد الروائي لكتابة آمال ونضال وآلام الناس الذين وحدهم من يدفع ثمن الجور والظلم والإكراهات ، وكل ذلك تم تلمسه عبر الكشف عن حجم الخراب النفسي والمكاني الذي تعرضت له أثينا/ العراق ، لتتمظهر الديستوبيا في مجمل افعال الآلهة/ الحكام وتابعيهم وسدنة هياكلهم ليعم الفساد في المدينة ونفوس الناس .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة