اللغة والنهضة

يضيق نفر منا ذرعاً بلغته، ويتأفف منها، ويطلق عليها الكثير من النعوت. وهو يجهل كل ما يميزها عن لغات العالم. فهي بنظره لغة صعبة، جامدة، لا تتطور، ولا تتغير. ولا بد لها مثل أي كائن حي آخر أن تنمو، وتكبر، وتأخذ، وتعطي.
وهو إذا ما كتب، أو تحدث، ينتقل من خطأ إلى خطأ، ومن لحن إلى لحن، ومن هفوة إلى هفوة. ولا يرى في ذلك غضاضة أو إثماً. أما إذا خرج شخص ما عن قواعد اللغة الأوربية، أو نطق كلماتها بغير ما إتقان، فلن يتوانى عن لومه وتقريعه. فما ارتكبه جرم فاضح لا يحتمل المغفرة أو الرضوان!
ولكن هذا النفر لا يعلم أن هذه اللغة، بكل ما فيها من قيود، هي التي أيقظت العرب من غفلتهم، في يوم من الأيام. ولا يدرك أن النهضويين العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانوا في الأصل علماء لغة، ورجال أدب، وخطباء منبر. والعربية كانت في زمنهم، كما يرى جاك بيرك، لغة علوية. فلم تخل قرية نائية، أو زاوية بعيدة، في أكثر عصور الجهل إظلاماً من شيخ يعلم الصبية القرآن، بغض النظر عن درجة تعليمه، أو هيأة ملبسه. ولأن العربية لغة السماء، فقد أسبغ القوم على هؤلاء الشيوخ التجلة والإكرام.
وحينما لاحت خيوط الفجر، وبزغت تباشير النهضة، انتقلت العربية من السماء إلى الأرض، ومن المسلمين إلى العرب. فأصبحت لغة قومية في المقام الأول. وقام أدباء ورجال دين نصارى في الشام، بإثارة الانتباه إليها، وأخذوا يقاومون التتريك والجهل، ويبشرون بالعروبة والعلم. فظهر ناصيف اليازجي، وبطرس البستاني، وأحمد فارس الشدياق، وفرنسيس المراش، وآخرون غيرهم. ونشأ الاتصال الأول بين «أسرار اللغة» وعلوم الغرب، قبل أن يتطور في ما بعد على أيدي المهجريين في القرن العشرين.
كان الأدب في تلك الأيام هو الطريق الذي سلكه العرب، مسلمين ونصارى، نحو الحضارة الجديدة. وحاولوا عن طريقه التخلص من الهيمنة التركية، بكل ما كانت تمثله من تخلف وجهالة. والذين ينكرون على الأدب اليوم أن يكون وسيلة من وسائل المدنية، أو منبراً من منابر التنوير، عليهم أن يتذكروا كيف كان اللغويون والأدباء والشعراء ذات يوم، فرسان النهضة الحقيقيين.
ربما لا يروق مثل هذا الكلام للبعض، بعد أن تدفقت التقنية عليه من الغرب، وغيرت نمط حياته. ولكني أجد أن مقالة أحد أساتذة الروسية الراحلين في العراق، وهو الدكتور مكي المواشي، في هذا الخصوص، تلخص الحاجة إلى فهم أكبر للعربية حينما قال:»إنني حينما درست اللغة الروسية، تساءلت لم علي أن أتقن هذه اللغة وأجهل لغتي الأم»!
لقد حرف إهمال العربية أصحابها عن التفكير في مسار جديد، ينقلهم من وضع إلى وضع، ومن حال إلى حال. فأضاعوا بذلك فرصة ذهبية لن تتكرر بسهولة، وعرضوا بلدانهم إلى ألوان التبعية. وهم في غنى عن ذلك بكل المقاييس.
محمد زكي إبراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة