المزيد عن الصهيونية الاميركية 2 – الأهرام 5 أيلول 2000

لقد حدث فصلا مربكاً صغيراً منذ كتابة مقالتي الأخيرة عن هذا الموضوع قبل أسبوعين. فقد جرد (مارتن انديك) سفير الولايات المتحدة في إسرائيل (للمرة الثانية في أثناء إدارة كلينتون) فجأة من حصانته الدبلوماسية الرسمية بواسطة وزارة الخارجية.
القصة التي ظهرت انه استعمل حاسوبه المحمول من دون إجراءات أمنية مناسبة، ولذلك ربما تم كشف معلومات او اطلع شخص غير مخول عليها. نتيجة لذلك لا يستطيع ان يدخل او يغادر وزارة الخارجية من دون مرافق كما انه لا يستطيع ان يبقى في إسرائيل ويجب ان يخضع الآن الى تحقيق كامل.
ربما لن نكتشف الآن ما حدث فعليا. لكن ما يعرفه العوام ولم تناقشه وسائل الإعلام فضيحة تعيين انديك في منصبه في المقام الاول. عشية تتويج كلينتون في كانون الثاني 1993، صدر اعلان بأن (مارتن انديك) المولود في لندن والمواطن الأسترالي قد اقسم بالولاء كمواطن أميركي بناء على رغبة الرئيس المنتخب الواضحة.
لم يتم التقييد بالإجراءات المناسبة: انه امر امتياز قطعي لذلك بعد ان نال مواطنة الولايات المتحدة، استطاع (مارتن) بعد ذلك مباشرة من ان يصبح عضوا في هيئة مجلس الامن القومي المسؤول عن الشرق الاوسط. هذه هي الفضيحة الحقيقية برأيي، وليست اهمال انديك اللاحق او حماقته او حتى تورطه بجريمة تجاهل القواعد الرسمية للسلوك.
قبل ان يصل الى قلب حكومة الولايات المتحدة في منصب مهم وبالغ السرية، كان انديك رئيسا لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، خزان فكري من شبه المثقفين المنشغلين في دفاع ناشط لمصلحة إسرائيل ونسق أعماله مع الايباك (اللجنة الاميركية للشؤون العامة الإسرائيلية) اللوبي الأقوى والمرعب في واشنطن. من المهم هنا ملاحظة ان (دينيس روس) قبل ان يأتي الى إدارة بوش كمستشار لوزارة الخارجية ليقود عملية السلام الأميركية، كان أيضاً رئيس معهد واشنطن، لهذا كانت الحركة بين اللوبي الإسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أكثر من اعتيادية ومنظمة أيضاً.
كان الايباك منذ سنين اللوبي الاكثر نفوذاً وفعالية، ليس لأنه اجتذب اليهود المنظمين والمترابطين بنحو جيد، والبارزين والناجحين والاثرياء فقط، وانما لوجود مقاومة صغيرة جدا له.
هناك خوف صحي واحترام في كل انحاء البلاد وخصوصا في واشنطن حيث يمكن في غضون ساعات سوق كل مجلس الشيوخ تقريبا الى توقيع رسالة الى الرئيس تأييداً لمصلحة إسرائيل. من سيعارض الايباك ويستمر بمنصبه في الكونغرس او يعارضه لصالح القضية الفلسطينية، مثلا عندما لا تستطيع تلك القضية توفير أي شيء ملموس لكل من يتحدى الايباك؟ في الماضي قاوم عضو او عضوان من الكونغرس الايباك علنا فعرقلت كثير من اللجان السياسية التي يسيطر عليها الايباك اعادة انتخابهما مرة أخرى. السيناتور الوحيد الذي ليس له موقفا معاديا للايباك بنحو واضح كان جيمس ابو رزق الذي رفض ان ينتخب مرة أخرى لأسبابه الشخصية، واستقال بعد انتهاء فترته المكونة من ست سنوات.
لا يوجد أي معلق سياسي الآن يجاهر بصراحة مطلقة في مقاومته لإسرائيل في الولايات المتحدة. قلة قليلة من كتاب الأعمدة مثل انثوني لويس من نيويورك تايمز الذي يكتب نقدا لممارسات الاحتلال الإسرائيلي أحيانا، لكنه لم يذكر أي شيء عن 1948 وعن قضية طرد الفلسطينيين الاصلية، وهي اساس وجود إسرائيل وسلوكها اللاحق.
في مقالة حديثة للمسؤول السابق في وزارة الخارجية (هنري براشت) لاحظ الاجماع الصاعق في الرأي في كل قطاعات وسائل الاعلام الاميركية من السينما الى التلفزيون والاذاعة والجرائد والشهريات والاسبوعيات واليوميات: كلها تتمثل للخط الإسرائيلي الرسمي، الذي أصبح الموقف الاميركي الرسمي أيضاً.
حققت الصهيونية الاميركية هذا التطابق في سنوات منذ عام 1967 واستغلته في جل النقاشات السياسية المتعلقة بالشرق الأوسط. السياسة الأميركية تساوي السياسة الإسرائيلية ما عدا مناسبات نادرة جدا (قضية بولارد مثلا) حين تتجاوز إسرائيل الحد وتزعم ان من حقها ان تساعد نفسها فيما ترغب.
لذلك تقتصر ممارسات نقد إسرائيل على غارات عرضية قليلة نادرة وغير مرئية تقريبا. الأجماع الكلي حصين عملياً وقوي جداً ومفروض بالقوة في كل مكان داخل الاتجاه السائد المقبول. يتكون هذا الاجماع من حقائق لا يمكن مهاجمتها، وتنظر الى إسرائيل كدولة ديمقراطية، فضيلتها الاساسية، الحداثة وحصافة شعبها وقراراتها.
الحاخام (ارثر هيتزبيرغ) رجل دين أميركي محترم، قال مرة ان الصهيونية دين دنيوي للجالية اليهودية الاميركية. دعمت كثير من المنظمات الاميركية هذا بنحو واضح، وكان دورها ضبط الحقل الشعبي من اجل مخالفة المعاهدات والقوانين، برغم ان كثيراً من المنظمات اليهودية الأخرى تدير المستشفيات والمتاحف ومعاهد البحوث لمصلحة البلاد كله هذه الازدواجية مثل أي تناقض عصي على الحل حيث فيه مشاريع عامة تتواجد مع احط واقذر المشاريع الأخرى، لنأخذ مثالا حديثا على ذلك المنظمة الصهيونية من اجل اميركا صغيرة، لكنها مجموعة من المتعصبين والصاخبين دفعت من اجل إعلان في نيويورك تاميز في العاشر من أيلول موجة الى (يهود باراك) كما لو انه كان مستخدما لدى اليهود الاميركيين، ذكروه في الإعلان بانهم ستة ملايين شخص، ويفوقون عدديا الخمسة ملايين إسرائيلي الذين قرروا التفاوض على القدس، لم تكن لغة الإعلان تذكيرية فقط، بل تهديدية تقريبا، فقد جاء فيه بان رئيس وزراء إسرائيل قرر بنحو غير ديمقراطي قبوله بما يبغضه اليهود الاميركيون ويعدونه من المحرمات الدينية، وانهم غير مسرورين بسلوكه هذا.
ليس واضحاً تماماً من يفوض هذه المجموعات الصغيرة المشاكسة من المتعصبين لتوبخ رئيس الوزراء الإسرائيلي في هذه العبارات الحادة، لكن تلك المنظمة تشعر بحقها في التدخل في شؤون أي احد، كانوا يكتبون باستمرار ويهتفون لرئيس جامعتي مطالبين بطردي او لومي بسبب شيء قلته، كما لو ان الجامعات كانت رياض أطفال، والاستاذة يعاملون كجانحين قصر، لقد شنوا حملة السنة الماضية لفصلي وطردي من العمل من مصبي المنتخب كرئيس لجمعية اللغات الحديثة، ووبخت تلك المنظمة اعضائها الثلاثين الف كما لو كانوا بلهاء ومغفلين، هذا هو اسوا شكل من التنمر الستاليني، لكنه نموذجي للصهيونية الاميركية المنظمة في أسواها واشدها تعصبا.
وبصورة مماثلة انتقد كتاب ومحررون من شتى أطياف الجناح اليميني (مثل نورمان بودهورتز، وتشارلز كروثامر، وويليام كريستول، نذكر قلة من اعلى الأبواق الدعائية المروجة) إسرائيل في الشهور القليلة الماضية لمجرد انها أثارت استياءهم، وكأنما لهم الحق فيها اكثر من أي شخص آخر، فعلوا ذلك بثقة تامة، وكانت لهجتهم في هذه المقالات وغيرها مخيفة، مركب منفر من الغطرسة الصفيقة والوعظ الأخلاقي، واقبح اشكال النفاق، لقد افترضوا بانهم يستطيعون النجاة من تجاوزاتهم اللفظية المرعبة، لان سلطة المنظمات الصهيونية تدعم وتؤيد شجيهم القاسي، لكن الحقيقة هي ان اغلب الاميركيين اما انهم كانوا يجهلون ما قاله هؤلاء، او تعرضوا للتهديد فصمتوا أمام هذا الهراء الذي كان قليل منه يتعلق بالسياسات الفعلية في الشرق الأوسط، لكن اغلب الإسرائيليين العاقلين ينظرون اليهم بنفور.
وصلت الصهيونية الاميركية الان الى مستوى من الوهم الصرف، بأن كل ما هو جيد للصهاينة الاميركيين في اقطاعيتهم وخطابهم الخيالي جيد لاميركا وإسرائيل، وبالتأكيد للعرب أيضاً والمسلمين والفلسطينيين، من يجرؤ على تحديهم (خصوصا ان كان عربيا او يهوديا منتقدا للصهيونية) يتعرض الى اكثر الانتهاكات والقدح شناعة كلها شخصية وعنصرية وأيديولوجية، انهم قساة، لا يعرفون اللين، ويخلون تماما من السماحة والتفاهم الانساني الحقيقي، ان القول بأن خطبهم اللاذعة مشابهة لأسلوب كتاب العهد القديم هو تحفيز للكتاب.
بعبارة أخرى ان التحالف معهم كما حاولت الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية ان تصوغه منذ حرب الخليج، أغبى انواع الجهل، انهم يعارضون بعناد كل ما يؤيده العرب والمسلمون وبالأخص الفلسطينيين، وسينسفون أي شيء كي لا يعقدوا أي سلام معنا، ومن الصحيح أيضاً ان اغلب المواطنين الاعتياديين يحتارون من حماس خطابهم، لكنهم لا يدركون خلفيته حين يتكلم مع أميركي غير يهودي، او عربي لا خبرة لديه في الشرق الأوسط، تجده عاد شهور بالتعجب والسخط على ذلك الموقف المتوعد، كما لو ان الشرق الاوسط كله غنيمة لهم، لقد استنتجت ان الصهيونية في اميركا ليس بمجرد وهم مبني على اسس مهزوزة ويستحيل التحالف او توقع نقاش منطقي معها، لكن يمكن محاصرتها وهزمها.
قد نصحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وكل فلسطيني وعربي قابلته منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، ان بحث المنظمة عن اذن الرئيس وهم، لان كل الرؤساء الأخرين كانوا مخلصين ومكرسين للصهاينة، وان الطريقة الوحيدة لتغيير سياسة الولايات المتحدة وتحقيق حق تقرير المصير يجب ان تكون من خلال حملة جماهيرية لصالح الحقوق الانسانية للفلسطينيين، تؤثر في محاصرة الصهاينة، وتتوجه مباشرة الى الشعب الاميركي.
ما يزال الاميركيون لا يعملون، ومنفتحون لمناشدة العدالة، وسيردون كما ردوا على حملة المجلس الوطني الافريقي ضد سياسة التمييز العنصري الذي بدل التوازن داخل الجنوب الافريقي خيرا في العدالة، هنا سوف اذكر ان (جيمس زغبي) الناشط في حقوق الانسان (قبل ان يرمي بمصيره مع عرفات وحكومة الولايات المتحدة والحزب الديمقراطي) كان واحداً من مؤسسي هذه الفكرة، وان تخليه عنها كليا علامة على تغيير موقفه، وليس عن بطلان الفكرة نفسها.
لكن اتضح لي أيضاً ان منظمة التحرير الفلسطينية لن تفعل ذلك ابدأ لأسباب كثيرة اولا: يتطلب ذلك جهدا وتفانيا.
ثانياً: يعني ذلك اعتناق فلسفة سياسية مبنية على تنظيم ديمقراطي راسخ أساساً.
ثالثاً: ستكون تلك حركة وليس مبادرة شخصية لمصلحة القادة الحاليين، وأخيراً يستوجب ذلك معرفة حقيقية غير سطحية لمجتمع الولايات المتحدة اضافة الى ذلك شعرت ان العقل التقليدي الذي ما يزال يورطنا في موقف اثر آخر يصعب تغييره واثبت الزمن صحة قولي اتفاقيات اوسلو كانت تنازلا لا يمكن تخيله من جانب الفلسطينيين يقابل التفوق والسيادة الإسرائيلية- الاميركية اكثر مما هي محاولة لتغيرها.
على أي حال ان أي تحالف او تسوية مع إسرائيل في الظروف الحالية التي تسيطر فيها الصهيونية الاميركية على سياسة الولايات المتحدة محكوم بقسوة بالنتائج نفسها بالنسبة للعرب عموما، وللفلسطينيين خصوصا، إسرائيل يجب ان تهيمن المصالح الإسرائيلية اولا والظلم الإسرائيلي المنهج سيطول اذ لم يتم هزم الصهيونية الاميركية وتغييرها- ستظل النتائج كما هي: الغم والعار لنا كعرب.

خيانة المثقفين لإدوارد سعيد

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة