كانت احداث الأسابيع الأربع الماضية في فلسطين نصرًا شبه تام للصهيونية في الولايات المتحدة، للمرة الأولى منذ انبثاق الحديث للحركة الوطنية الفلسطينية في ستينيات القرن العشرين، حيث حول الخطاب السياسي والشعبي بامتياز إسرائيل الى ضحية خلال الصدامات الأخيرة، لدرجة انه برغم الابلاغ عن الخسارة في الارواح في صفوف الفلسطيني باستشهاد 140 شخصاً واصابة 5000 ما يزال يسميه (العنف الفلسطيني) الذي عطل التدفق السلس والمنظم لـ (عملية السلام).
هناك الان سلسلة صغيرة من عبارات الابتهال التي يكررها كل معلقو التحرير اما حرفيا، او يعتمدون على اعتقاد ضمني: نقشت في الاذن والعقول والذواكر كإرشاد للمشوشين، ككتب للاستعمال، او آلة لإنتاج العبارات التي سدت الاثير لمدة شهر في الاقل: يمكنني سرد اغلبها غيبًا: الإسرائيليين السابقين (90% من الأراضي وسيادة جزئية على القدس الشرقية) كان موقف عرفات جباناً، ويفتقر الى الشجاعة الضرورية لقبول العروض الإسرائيلية لإنهاء الصراع، والعنف الفلسطيني الذي يوجهه عرفات هدد امن إسرائيل (مع كل التنوع في هذا بما فيه الرغبة في اجتثاث إسرائيل، واعداء السامية، والغيظ الانتحاري للوصول الى التلفزيون، ووضع الاطفال في الخطوط الامامية ليصبحوا شهداء)، الذي اثبت (الكره) القديم لليهود الذي يحفز الفلسطينيين. عرفات قائد ضعيف لأنه يسمح لشعبه في مهاجمة اليهود وتحريضهم ضدها بإطلاقه للإرهابيين، وإصداره كتبا مدرسية تنكر وجود إسرائيل.
هناك صيغة او اثنتان لم اذكرهما، لكن الصورة العامة ان إسرائيل مطوقة ببرابرة يقذفون الحجارة، حتى ان الصواريخ والدبابات والمروحيات المسلحة التي استعملت للـ (دفاع) عن إسرائيل ضد هذا العنف، هي مجرد الاحتماء من قوة رهيبة. تحذيرات بيل كلينتون (التي كررها وزير خارجيته كالببغاء) للفلسطينيين (بالتراجع) تمادت لتوحي بان الفلسطينيين هم الذين ينتهكون الاراضي الإسرائيلية وليس العكس.
من الجدير ذكره ان صهينة الاعلام كانت ناجحة جدا لدرجة لم تنشر فيها أي خريطة، او تعرض على التلفزيون لتذكر للقراء والمشاهدين الأميركيين- المشهورين يجهلهم للتاريخ والجغرافيا- ان المخيمات العسكرية الإسرائيلية والمستوطنات والطرق والحواجز المتقاطعة هي فوق الارض الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، فضلا على ذلك، وكما حدث في بيروت في عام 1982 هناك حصار إسرائيلي حقيقي على الفلسطينيين بمن فيهم عرفات ورجاله، كما نسى تماما نظام المناطق الف وباء وجيم الذي استمر فيها الاحتلال العسكري ل 40% من غزة و 60% من الضفة الغربية والذي لم تكرس عملية اوسلو لإنهائه او تعديله.
بغياب الجغرافيا في هذه الصراعات الجغرافية، الفراغ الناتج نقطة اساسية ومهمة، بما ان الصور التي تعرض او توصف كانت من دون سياق اطلاقا. اعتقد ان الحذف من قبل وسائل الاعلام المتصهينة كان متعمدا منذ البداية واصبح آليا الآن، وقد سمح ذلك للمعلقين الدجالين من امثال (توماس فريدمان) بتسويق بضاعته بلا حياء، متطفلا على الحياد الاميركي والمرونة الإسرائيلية والسخاء على براغماتية الحاده التي وبخ بها العرب بقسوة أذهلت قرائه الضجرين، ولم ينتج عن ذلك قبول الفكرة المنافية للعقل تماما، بأن الفلسطينيون مجردون من كل الصفات الإنسانية، كوحوش بلا حس او واعز.
وكانت الأعجوبة الصغيرة الأخرى حين تذكر اعداد الموتى والجرحى لا تعطي جنسياتهم: مما يترك الاميركيون يعتقدون بان المعاناة مقسومة بالتساوي بين (الطرفين المتحاربين) وفي الواقع يرفع من معاناة اليهود ويقلل او يحذف المشاعر العربية تماما، ماعدا للغيظ طبعا، ويبقى الغيظ وأقرباؤه العاطفة الفلسطينية المميزة الوحيدة، فهو يفسر العنف، وفي الواقع يجسده، لذلك اصبحت تمثل آداب السلوك والديمقراطية المحاصرة دائما وأبدا بالغيظ والعنف، ليس هناك أي تفسير منطقي آخر لقاذفي الحجارة و (الدفاع) الإسرائيلي الشجاع.
لم يتكلم احد عن تدمير البيوت، ومصادرة الأراضي، والتوقيف غير القانوني، والتعذيب وما شابه، لم يرد أي ذكر لأطول احتلال عسكري في العصور الحديثة (ما عدا الاحتلال الياباني لكوريا) ولا شيء عن قرارات الامم المتحدة، لا شيء عن خرق إسرائيل لمعاهدات جنيف، لا شيء عن عذابات شعب وعناد وقسوة شعب آخر، نسيت كل ماسي نكبة 1948 من تطهير عرقي ومجازر وتدمير (قبيا وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا). سنوات الحكم العسكري للمواطنين غير اليهود، وعدم التكلم عن اضطهادهم المستمر كاضطهاد الأقلية التي تشكل 20% داخل الدولة اليهودية. ارييل شارون في احسن الاحوال محرض وليس مجرم حرب، (ايهود باراك) كرجل دولة وليس سفاك بيروت، الإرهاب من الجانب الفلسطيني دائما والدفاع من الجانب الإسرائيلي.
فشل (فريدمان) ومؤيدو إسرائيل ان يذكروا حين مجدوا كرم (باراك) غير المسبوق بانه التجسيد الحقيقي له، لم يذكرونا انه تعهد بانسحاب ثالث (نحو 12%) في وايا منذ 18 شهر، لكنه لم يحدث أبداً، اذن ما قيمة كل هذه (التنازلات)؟ لقد علمنا انه كان راغبا في إعادة 90% من الاراضي لكن ما حدث ان إسرائيل ليس لها نية في التخلي عن الـ 90% فالقدس الكبرى اكثر من 30% من الضفة الغربية، وتلحق بها مستوطنات كبيرة تشكل 15% وطرق عسكرية أيضاً لهذا بعد حسم كل هذا فان الـ 90% البقية ليست كثيرة.
بالنسبة للقدس: إسرائيل كانت بالدرجة الاولى ترغب في المناقشة وربما تعرض سيادة مشتركة فوق الحرم الشريف الخداع المثير في المسألة ان كل القدس الغربية (العربية أساسا في عام 1948) تنازل عنها عرفات زائد اغلب القدس الشرقية الممتدة بنحو واسع تفصيل آخر: بعد اطلاق النار من أسلحة فلسطينية صغيرة على (جيلو) اظهرته وسائل الاعلام آليا بأنه عنف غير مبرر بينما لم يذكر احد ان جيلو نفسها تقع على ارض صودرت من بيت جالا المكان الذي اطلقت منه النار اضافة الى ان بيت جالا قصفت بصورة غير متكافئة بالمروحيات الإسرائيلية التي استخدمت الصواريخ لتدمير البيوت المدنية.
لقد اجريت مسحا لكل الصحف الرئيسة فوجدت انه منذ 28 أيلول كان معدل مقالات الرأي من واحد الى ثلاث يومياً ومنها نيويورك تايمز، وواشنطن بوست، وول ستريت، ولوس انجليس تاميز، وبوسطن غلوب، باستثناء ثلاثة مقالات كتبت في لوس انجليس تاميز من وجهة نظر مؤيدة للفلسطينيين ومقالتين (واحدة بقلم محامي يهودي (اليغرا بشيكو) الأخرى بواسطة صحفي اردني ليبرالي من مؤيدي اوسلو (رامي خوري) في نيويورك تايمز. كل المقالات بما فيها العواميد النظامية مثل (فريدمان وويليم سافاير وتشارلز كروثامر واشباههم) كانت مؤيدة لإسرائيل ولعملية السلام التي ترعاها الولايات المتحدة، والقاء اللوم على العنف الفلسطيني، وافتقار عرفات للتعاون، والتصعب الإسلامي. كان الكتاب من عسكريين سابقين في الجيش الأميركي، اضافة الى كونهم موظفين مدنيين ومدافعين إسرائيليين ورسميين من اللوبيات والمنظمات المؤيدة لإسرائيل. بتعبير آخر لقد حدث كل هذا التعميم بواسطة الاتجاه السائد والتظاهر بعدم وجود موقف فلسطيني، او عربي، او اسلامي من هذه القضايا، كالرعب الإسرائيلي ضد المدنيين، او الاستعمار الاستيطاني، او الاحتلال العسكري، او لا يوجد موقف يستحق سماعه هذه سابقة لا مثيل لها في تاريخ الصحافة في الولايات المتحدة وانعكاس مباشر للعقلية الصهيونية التي جعلت إسرائيل معيار للسلوك الانساني وبذلك تم اقصاء 300 مليون عربي و 1،2 بلويم مسلم.
في الحقيقة ان العقلية التي وصفتها مذهلة في طيشها، ولو لم تكن عملية جدا اضافة الى تشويهها الفعلي للواقع، لكنها تتطابق كثيرا مع السياسة الإسرائيلية التي تتعامل مع الفلسطينيين ليس كشعب ذو تاريخ من الطرد (تتحمل إسرائيل مسؤولية مباشرة عنه الى حد كبير)، وانما كشيء مزعج متكرر، او الرد الوحيد عليه هو القوة وليس التفاهم او التسوية الكاملة، بدا هذا التعامل المدهش في الازدياد في الولايات المتحدة من الوقت الذي لم يبد العرب والمسلمون أي اهتمام الا بمؤخرة كل سياسي طامح.
منذ بضع أيام أعلنت (هيلاري كلينتون) في إيماءة عن اكثر أشكال النفاق تقززا وهي تعيد هبة بقيمة 000،50 دولار من جماعة من المسلمين الأميركيين لانهم يؤيدون الارهاب كما قالت، هذه الواقعة كذبة مكشوفة اذ ان المجموعة المعنية لم تقل سوى انه تؤيد المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل في اثناء الأزمة الحالية، ليس هذا الموقف مشؤوم بحد ذاته، وانما هو جرم من المنظور الأميركي، لان الصهيونية الاستبدادية ترى ان أي- واقصد (بأي)حرفيا- نقد لإسرائيل لا يمكن التسامح معه، ويصنف على انه من اشكال العداء للسامية. برغم ان العالم كله انتقد السياسات الإسرائيلية المتمثلة في الاحتلال العسكري، والعنف غير المتكافئ، وحصار الفلسطينيين، اما في اميركا فيجب ان تكف عن النقد، والا ستلاحق كعدو للسامية يستحق أقسى أنواع الازدراء.
ان الغرابة الأكثر للصهيونية الأميركية، هي كونها نظام من الفكر المتناقض والتشوية الاوريلي، لذلك من الممنوع ان تتحدث عن العنف اليهودي، او الاعمال اليهودية حين يتعلق الأمر بإسرائيل، حتى ان كل ما تفعله إسرائيل تفعله باسم الشعب اليهودي، وبالدولة اليهودية ومن أجلها لم يذكر أي تعليق بشأن تلك التسمية المغلوطة لهذه الدولة بكون 20% من السكان ليسوا يهودًا، مما يسبب الكثير من الدهشة، ذلك التناقض التام المتعمد الذي تثبته وسائل الاعلام بين (العرب الإسرائيليين) و (الفلسطينيين): فليس هناك قارئ واحد يعرف بانهما الشعب نفسه الذي قسمته السياسة الصهيونية، او ان المجتمعان الاثنان يمثلان نتائج السياسة الإسرائيلية- الاارتايد في المجتمع الاول والتطهير العرفي في الثاني.
لم تجر الصهيونية الاميركية اي نقاش جدي عام عن إسرائيل بوصفها اكبر متألق لمساعدات الولايات المتحدة، وعن ماضيها ومستقبلها. تحريم لا يمكن خرقه بأي ظرف ان القول بأن هذا آخر المحرمات في النقاش الاميركي مبالغة أكيدة، الإجهاض، والشذوذ الجنسي، وعقوبة الإعدام، حتى الميزانية العسكرية المقدسة جدا يمكن التحدث عنها ببعض الحرية (لكن ضمن حدود)، يمكن حرق العلم الاميركي في العلن، بينما نشر اخبار استمرار إسرائيل في المعاملة المنهجية القديمة منذ 52 سنة لا يمكن تخيله، ولا يسمح بظهوره.
قد يكون هذا الاجماع الى حد ما كما لو انه لم يجعل من العقاب المستمر للشعب الفلسطيني وتجريده من الصفات الانسانية فضيلة حقيقية، ليس هناك شعب في العالم اليوم يعد اغلب المشاهدين الاميركيين قتلة على شاشات التلفزيون مقبولا، ومستحقا للعقاب، هذه هي الحال مع الفلسطينيين الذين جمعت خسائرهم في الأرواح في الشهر الماضي تحت عنوان (العنف من الجانبين) كما لو ان حجارة ومقاليع الشباب الذين سئموا تماماً من الظلم والقمع كانت جريمة كبرى، وليست مقاومة شجاعة لمصير بائس فرضة عليهم ليس الجنود الإسرائيليين واميركا فقط بل عملية سلام رسمت لسجنهم في بانتوستانات ومحميات لا تناسب سوى البهائم.
ان الجريمة الحقيقية التي ارتكبها مؤيدو إسرائيل في الولايات المتحدة خلال سبع سنوات من التآمر، هي اصدار وثيقة رسمت أساسا لحبس شعب كنزلاء في مصح عقلي، او سجن. ان النجاح في تمريرها كعملية سلام بدل من الخراب الذي سببته يفوق قدراتي على فهمها، او وصفه بنحو واف بانها ليست اقل من فجور منفلت، اسوأ من كل هذه هو الجدار الحديدي الدفاعي في النقاش الاميركي الذي يحمي إسرائيل لدرجة لا يمكن ان تخطر أي اسئلة في عقول الذين انتجوا أوسلو، والذين صار لهم سبع سنوات يمررون خطتهم للعالم على انها السلام، قلما يستطيع المرء ان يعرف ايهما اكثر ضررا العقلية التي تنظر الى الفلسطينيين بانهم غير مؤهلين حتى للتعبير عن الشعور بالظلم (هم ادنى من ذلك بكثير)، ام تلك العقلية التي تستمر في التآمر على زيادة استعبادهم.
ان الوضع سيء بالإجمال، لكن حالتنا البائسة فيما يتعلق بالصهيونية الاميركية ستزداد بسبب غياب أي مؤسسة هنا، او في العالم العربي، تكون مستعدة وقادرة على انتاج البديل، أخشى ان تغطيه هؤلاء المتظاهرون بنحو مناسب لدى القيادة الفلسطينية المرتعدة العاجزة عن التراجع او التقديم وهذا منتهى الاسف.
من كتاب خيانة المثقفين لإدوارد سعيد