علي سعدون
الشعر بعمومه، تجربة شخصية بطبيعة الحال، لكنه – وفق الرؤية الشخصية – سيختلف في أدائه من شاعر الى اخر، بسبب من ان الاتجاه الشخصي في الكتابة، سيأخذ معه مجموعة اشتراطات تقود في نهاية المطاف الى تفرّد الشاعر وانتاجه لنص يحتوي على مجموعة من القيم الشعرية التي تميز هذه التجربة عن سواها. واعتقد جازما، ان التجربة التي تخلو من الهاجس الشخصي في الكتابة، ستسير حتماً الى نوع من الافقية في الكتابة، ولا تتراكم على الاطلاق في مساحة شاخصة من الابداع.
والشعر الشخصي الذي ينطلق من الذات، الجسد، العائلة، المحيط القريب جدا.. الخ، هو شعر يسير على جادة مزدانة بالخطورة الى اقصاها، ذلك ان الوجدانيات التي يزخر بها شعرٌ من هذا النوع، ستحتّم على الشاعر حفريات من نوع مختلف، بغية المغايرة والتجديد بعد مسيرة طويلة من السائد الشعري. هذه في الواقع هي الخطوة الاولى التي يتخذها فراس طه الصكر، كعتبة اشتغال في موضوعة يعي جيدا مدى اهميتها وتعقيدها. وان الطريق الذي سيعبر من خلاله الى الشعرية في هذه المجموعة، سيكون مملوءً بالمجازفة التي تستدعي جهدا هائلا من المعرفة الشعرية وتراكم الخبرة.، ومن ثم اطلاق العنان للمخيلة الى اقصاها للكتابة وفق النسق المعاصر في النظر الى خصوصيات الشاعر ورؤيته للحياة والعالم. بتقديري الشخصي، هذه أولى العلامات التي تلفت الانتباه كانطباع أول في مجموعة بريد العائلة.. إنطباعٌ يحيل خطورة الاشتغال على مفردات العائلة والهم الشخصي الى كتابة ابداعية. خاصة، إذا ما تذكرنا ان الاشتغال على هذه الموضوعة، كان قد استثمره عددٌ من شعراء قصيدة النثر العراقية. وبالتالي فان العودة اليوم الى هذه الخصيصة، سيحمّل شاعراً مثل فراس طه الصكر جهداً مضاعفاً وسيحمّله مسؤولية التجديد والمغايرة في هذه المنطقة الخصبة والمتوهجة في الذاكرة العراقية، ذاكرة الحروب التي يرزح تحت وطأتها الاهل، والمجاعات والحصارات القاتلة وبشاعات التحول الصادم في الحياة سياسياً وأجتماعياً ودينياً.
نحن اذن، بصدد الكتابة عن مجموعة شخصية، تتوخى الابداع من خلال تداعيات العائلة، صوتِها ونشيجِها وغيابِ افرادِها واحداً إثر اخر. العائلة في هذه المجموعة ينفرط عقدُها من فرط التواشج والمحبة، لا من خلال الغياب وحده. فجيعة الغياب على وجه الدقة، لم تكن حافزا وحيداً للكتابة، هناك أكثر من ثيمة ستكون مسؤولة عن «بريد العائلة» وهو يقتفي أثرَ الشعرِ فيما يتداوله من بريدٍ تمثلُه النصوص، الرسائل هي نصوص هذه المجموعة، تنتقل من ثيمة الى أخرى وتتعدد مقصدياتُها، وبالنتيجة فأننا أمام مجموعةٍ شعرية تهتم بخصوصية البوح، وتطلقها أمامنا للتداولية أولاً بوصفها من فواعل التلقي الحقيقي.، ومن ثم لنكون جزء من محنة ذلك البريد الذي لا يصل وتبقى موضوعتُه مفتوحةً الى ما لا نهاية .. هل وصل بريدُ العائلة الذي يريدُ له الشاعرُ ان ينتظم في نصوص هذه المجموعة ؟ بالتأكيد لا. ان ما يصل منه سيتحول لدينا الى علامات في الحياة العراقية، تنطلق من خصوصية البوح لدى الشاعر وتنصهر لدينا بما يشبه الضياع المجتمعي، حالة من التواشج بين الصورة الفردية والصورة المشاعة في الغياب والفقدان والضياع الطويل :
«سأكتفي بجنونِكَ عن حكمةِ البحر/ واصرخُ : يا أبي / لو أن خيوط هزائِمكَ تتجمعُ في شبكةٍ واحدةٍ/ لاصطدتُ هذه العائلة التي تشبه بقاياكَ على السرير» ص26
يندر أن تجد مجموعة شعرية تتناوش الفجيعة بشعرية مركّبة وبطريقةٍ رصينة ومأخوذة حتف أنف التركيب اللغوي الى منطقة إبداع غاية في الاتقان، الاتقان في طريقة حفريات الجملة الشعرية، وطريقةِ بنائِها.. هذه الشعرية يمكننا أن نطلق عليها، شعريةَ الرسائل الحميمية التي تندلق من مخيلة العائلة لبعضِها.. لم يُكتب بريدُ العائلةِ على لسان فراس الصكر وحدَه، ثمة افرادٌ آخرون يشتركون في كتابة كنايات الفجيعة الشعرية : وحشة العائلة، ومصيرها الذي يتأرجح بين الفقدان وسواه. كلُ وحشةٍ هنا تأخذ بيد القارئ الى مشهدٍ متخمٍ بالغياب. الى منطقة بوح مخضّبٍ بفكرة الشعر الاولى، الانبثاق من رحم الواقعة من خلال الفن، ومشهديات التحاور بين الذات والاخر..
لقد إعتمدت هذه المجموعة الى إقلاب المهيمنات الراسخة في دلالاتها الشعرية إلى نوع آخر من تطويع التركيب يتناغم مع التأويل المختلف للدلالات ذاتها.، فمثلا، لن يجيء الابُ بصورةٍ واحدة في بريد العائلة، ذلك أنها تتعدد ويتنوعُ مضمونُها من حقلٍ دلالي الى حقلٍ اخر: الابُ المهزوم هو ذاته الابُ الكبير الذي ينعكس ظلُه على السرير ممثلاً ببقايا العائلة. وتنتقل صورتُه الفذة من الحلم الى الواقع، ذلك انه المحاصَر والمقاتَل والمخذول والباسل والجميل الذي يقترن بالمطر والندى والمرأة وخضرة الاشجار، الاب الذي تخونُه المرايا أيضا. وهو أبٌ قاسٍ وحاد للغاية، لكنه يستحيل بعد برهة الى وداعة شاسعة كأنها الارض المترامية الاطراف. هذه واحدة من مركزيات الاداء في شعرية بريد العائلة:
«انظري الى هذه الحروب/انها تلملم اوزارها وتغادر/ وقد دونت اسماءنا في (دفاتر النسيان) : ساقٌ يسرى، ذراعٌ يمنى، عينٌ سوداءُ، ورأسٌ أسمر، أترينَ ذلك يا حبيبتي؟ انهم يحفظوننا بأسماء اعضائِنا المبتورة» ص75
في هذه المجموعة وفي واحدة من إجترارات فلسفتها النصية، ينقل فراس الصكر معنى الهزيمةِ من ايقاعِ دلالتِها المعنية بالحرب وهي دلالةٌ راسخةٌ للغاية، الى معنى آخر أكثر حميمية ووجدانية يتمثّل في صراع الحياة الذي تتعارضُ قيمتُه الدلالية مع قبح الحرب، حتى وإن كان ذلك الصراع أكثر ضراوةً من الحربِ نفسِها، بسبب من وعيهِ الشخصي في أنسنة الخطاب الشعري ومعناه، إذ سيحتمل التغاير هنا وظيفة مقلوبة للدلالات الثابتة في هزيمة الأب وخذلانه، وصورة انثيالاته المختلفة على مساحة اكثر من نص في هذه المجموعة من خلال علاقة الاب وعلاقة العائلة بالحرب التي تتكرر كثيرا وماتزال في ابهى صورها الكالحة في الحياة العراقية.
تماسك الخطاب في بريد العائلة :
لقد عمد شعراءٌ كثيرون الى اعتماد السرد والحكائي لغرض المحافظة على وحدة الموضوع، وبالتالي اعتماد المعنى العميق الذي تتوخاه الشعرية الجادة، لا التي تسعى الى الولوج في تهويمات ورطانات لا حصر لها. هذا التماسك يظهر في «بريد العائلة» دون اعتماد الحكاية ودون اعتماد السرد الطاغي في المتن الشعري، الامر الذي يحسب للشاعر الذي اجتهد كثيرا في انتاج نص ضاج بالمعنى وبحفرياتٍ في تركيب الجملة الشعرية الواحدة دون الاتكاء على صنع المشهدية العالية التي تقود الى الشعر، وهذه بتقديري الشخصي واحدة من سمات الاختزال في قصيدة النثر العراقية، حتى وان ندر وجودُها في ظواهر الشعر العراقي المتعددة والمختلفة. وعليه يمكننا ان نشير الى تماسكٍ لافتٍ للخطاب في مجموعة بريد العائلة، تماسك لم يحيد عن جادة المعنى ولم يتخل عن استثمار الدلالات المتعددة في بناء النص وفق معايير ما بعد الحداثة، ببعدها الكوني الذي يتكئ على مفردات ووقائع الحياة ويخضبهما بتداعيات الفكر والمعرفة اكثر من اعتماده على افقية الكتابة والتفكير في النمط السائد الذي يكتبه الكثيرون.