إمبرتو إيكو.. آراء عن صنعة الرواية

كه يلان مُحَمَد

قد تكونُ كتابة الرواية مشروعاً مؤجلاً لدى مُعظم النقادِ فإنَّ تماهي هؤلاء مع العوالم الروائية وإلمامهم بمكوناتها ومايتطلبُه بناءُ المعمار السردي من تكنيكات تحفظُ له التماسك في تركيبته والتواصل السلس بين وحداته بمثابة دافع وراء التطلعِ لإنجاز العمل الروائي،والكلامُ الذي يُقال بأنَّ الرواية تتحولُ إلى ورشةٍ لتطبيق النظريات إذا ألفها الناقدُ لا يسري على الجميع بل قد يدركُ القادمون من منصة النقد إلى حلبة الرواية ضرورة تحاشي توظيف المعجم النقدي في المؤلفات السردية ويفهمون مقتضيات تصميم الرواية فبالتالي يحققون النجاحَ على المستويين النقدي والإبداعي فالكاتبُ الإيطالي إمبرتو إيكو من الصنف الذي نجحَ في تطريز الأعمال الروائية كما سبق وأنْ أضاف إلى حقل السيمائيات بمصنفاته وإجتهادته الفلسفية والنقدية وبذلك أصبح صاحب (الأثر المفتوح) فيلسوفاً وكاتباً روائياً في آن واحد فهو يؤكدُ على أنَّ المرء يمكنُ تحويل جميع الكتب الفلسفية من جميع العصور إلى بنية بولسية برأيه أن سبب إهتمام الناس وشغفهم بقصص بوليسية يكمنُ فيما تنطوي عليه تلك القصص من السؤال الميتافيزيقي .

العالمية
يقولُ الفيلسوف السيمائي في إحدى حواراته بأنه كان يكتبُ العديد من الروايات وهو في التاسعة من عمره ويقومُ بنشرها بعد تصميم الغلاف ويدمغها بإسم ناشر مُتخيل.إذا كان يبدوُ هذا الأمرُ مجرد لعبةٍ تنتمي إلى ماضٍ بعيد فإن الكاتبَ يعودُ من جديد إلى ممارستها عندما يصلُ إلى عتبة الخمسين ويَنشرُ روايته الشهيرة (إسم الوردة) ويحجزُ بهذا العنوان مقعداً في صف الروائيين العالميين ويخطُ إتجاها مميزاً في الكتابة السردية مُتنزهاً فيما هو مثير بأزمنة تارخية سحيقة ومُناقشاً لماهويشكلُ تحدياً للحاضر في رواياته التي تحملُ عناوين مُلفتة (بندول فوكو) (جزيرة اليوم السابق) (العدد صفر) مع أنَّ ماهو في رصيد إيكو ليس أكثر من خمس روايات لكن رافقت أعمالهَ أسئلة ونقاشاتُ كثيرة إضافة إلى ماقدمه الكاتب من مُحاضرات تناولَ تجربته الروائية لافتاً في الوقت نفسه إلى نتاجات أدبية فذة ومستويات إستجابة قُرائِها.يضمُ كتابه (إعترافات روائي شاب) الصادر من المركز الثقافي العربي ترجمة سعيد بنكراد سلسلة من المحاضرات ألقاها في جامعة أطلنطا حول أساليب الكتابة وعناصر العمل الروائي وعلاقة العمل الأدبي بالمتلقي.

مفهوم الإبداع
يعتبرُ إمبرتو إيكو نفسه روائياً واعداً وبدأتْ إنطلاقته في الكتابة الإبداعية مع صدور (إسم الوردة) سنة 1980صحيح أنَّه قد إستوحى في طفولته فكرة تأليف الرواية من كتب المغامرات غير أنَّ مؤلف (القاريء في الحكاية) ينصرفُ إلى مجال الدراسات النقدية في السنوات اللاحقة إلى أنْ تطلببَ منهُ صديقة تعمل في دار نشر صغيرة كتابة قصة بوليسية وهو بدوره لايقبلُ للوهلة الأولى بهذا الإقتراح وما أن يعود إلى المنزل حتى أخذ بالبحث عن مسودةٍ سجلَ فيها أسماء الرهبان وفي هذه اللحظة لاحظ بأنَّ فكرة كتابة الرواية تختمر في ذهنه دون أن يكون واعياً بذلك يكشف إمبرتو إيكو بأنَّ إنجاز (إسم الوردة) لم يتطلبْ منه البحث المضني لأنَّ أطروحته لنيل الدكتوراة كان موضوعها الجماليات القروسطية أكثر من ذلك فهو نشر عدة أبحاث حول هذه المرحلة وطاف بالمعابد الدينية لذا ماكان عليه إلا أن يفتح الرفَ الذي أُخْتزنِتْ فيه كل هذه المعلومات ليدشن مشروع كتابة الرواية أما بالنسبة لأعمالة الأخرى فبعضها إستغرق إنجازه ثماني سنوات.ماهو جدير بالإشارة في هذا الإطار هو نظرة إمبرتو إيكو عن مفهوم الإبداع إذ يرى بأنَّه من الصعب بمكان الفصل بين النصوص الإبداعية وغير الإبداعية إستناداً إلى مدى مطابقة المادة المكتوبة مع حقائق الواقع فهو يتساءَل عن السبب في إعتبار هوميروس مبدعاً بينما إفلاطون لاتُطلق عليه هذه الصفة؟ وهل يمكنك تصنيف بتليموس في فئة المبدعين لأنَّ ماقدمه عن حركة الأرض مغلوطة بالمقابل يُعَدُ منجز كيبلير أقل إبداعياً كونه مطابقاً للواقع.هنا يبلورُ إمبرتو إيكو رؤيته حول هذا الموضوع مُقتنعاً أنَّ موطن الإختلاف يعود إلى ردود الفعل المتباينة للمؤلفين حيال التأويلات المُقدمة عن كتاباتهم فأنَّ الفيلسوف أو العالم قد يرفض أو يقبل بتلك التأويلات يؤكدُ صحتها أو خطأها لكن الروائي أو الشاعر لايمكنه دحض أو إثبات صحة ما تصله من التأويلات.لأنَّ المبدعَ ليسَ مؤولاً لنصوص بقدر ماهو مُنتجِ لمادة تثيرُ التأويلات،ومن هنا ينتقلُ إمبرتوإيكو إلى موضوع تخمينات القاريء ومايفتحهُ النصُ لدى الأخير من أفق الإحتمالات بحيثُ يفتشُ بعض القراء عن أثر ما تابعهُ بين دفتي الرواية في الواقع كما يوجدُ نوعُ آخر من القاريء يريدُ مطابقة الواقع لما قرأه ويشيرُ في سياق هذا المبحثِ إلى ردود فعل معجبيه ومادونوهُ عن شخصية كاسوبون في رواية بندول فوكو.والأهمُ من ذلك مايذكرهُ الكاتبُ عن معايشته لتجربة كاسوبون وتسكعه في باريس إذ أنَّ إمبرتو إيكو قبل نحته لهذه الشخصية الروائية تأملَّ المكان الذي من المفترض أن تتحرك فيه داخل العمل الروائي.وتعين ماعليه الأجواء والطبيعة في تلك المسافة.

الحقيقة الروائية
يدرسُ إمبرتو إيكو في مفصل آخر من كتابه الشخصية الروائية مشيراً إلي وجه الإختلاف الحقيقة الموسوعية أي تلك المعلومات التي يمكن أن ننظرَ إليها بإعتبارها صحيحة من قبيل المسافة بين الشمس والأرض وموت هتلر منتحراً في المخبأ غير أن تلك الإثباتات تحتاج إلى المراجعة وهذا من شأن كل ماتضعه في خانة العلم إذ مع التوصل إلى وثيقة جديدة حول شخصية تاريخية ربما تتبدلُ الأفكار ويعادُ التفحص ماكانَ من الثوابت وغرض المؤلف من الإفاضة في الحديث عن هذا الموضوع هو إظهار تفاعلُ القاريء مع النصوص الروائية إلى درجة يستحيلُ التشكيك فيمايردُ في سياق السرد فمنْ لايُصدقُ مباشرة ما يحكيه تولستوي عن إنتحار آنا كارنينا بإلقاء نفسها تحت عجلة القطار.ضف إلى ذلك فإنَّ بعض الشخصيات التي ورد ذكرها في كتب التاريخ يحومُ حولها الشكُ بينما لا أحد يتساءَلُ عن شخصية (مدام بوفاري) مثلاً لذا يقولُ أليكساندر دوما (فمن ميزات الروائيين أنهم يخلقون شخصيات تقتلُ شخصيات التاريخ والسبب أنَّ المؤرخين يكتفون بالحديث عن أشباح أما الروائيون يخلقون أشخاصا من لحم ودم) وعن تأثير الشخصيات الروائية يتوقف إمبرتو إيكو عند تجربته الشخصية وإندماجه مع عالم جميس جويس بحيثُ تفوق معرفته ل(ليوبولد بلوم) ذلك الكائن الورقي على مايعرفه عن والده.كما يطرحُ سؤالاً بشأن شخصية آنا كارنينا وشدة إنفعال الجمهور مع حادث إنتحارها أكثر ممايتفاعلون مع خبر مقتل آلاف الأشخاص نتيجة الكوارث الطبيعية والحروب.تأتي أهمية هذا الكتاب لما يحتويه من الأسئلة والتفاصيل الدقيقة والمفاهيم الجديدة تُعينك على التعامل مع النصوص الروائية من منطلق جديد.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة