في الموقف من إيران

كما هو حال غالبية المواقف في هذه المضارب المنكوبة بالتشرذم والتطرف والثارات الصدئة، يتشظى الموقف من الجارة إيران كشعب وبلد ونظام سياسي وفقاً لتلك المناخات وحالة التمترس البعيدة عن كل ماهو متوازن ومسؤول، فهناك من يشيطن إيران شعوبا وحكومات، حاضرا وماضيا ومستقبلا أيضاً، ومقابل ذلك هناك من يضعها بمكانة أعلى وأهم من وطنه وشعبه، وهناك المتذبذبين بين الحالتين والذين لم يحسموا أمرهم في هذا الجدل العضال. وهنا لسنا بصدد التصدي للمواقف الإيرانية ونوع السياسات المتبعة من قبل حكومات طهران المتتالية، ودورها في رفد مثل هذه التمترسات الدوغمائية بما تحتاجه من وقود للاشتعال والاستمرار، فقد تطرقنا لذلك في مناسبات سابقة. موضوعنا اليوم ينصب حول ما ينضح عن بيئتنا المحلية وقواها السياسية والاجتماعية والعقائدية الحالية، والتي تدفع بالعلاقة مع ايران بشكل خاص ودول الجوار بعيدا عن الحكمة والمسؤولية والمصالح العليا للعراق والعراقيين من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء. ايران وغيرها من بلدان الجوار، هم جيراننا الأزليون وقد ارتبطنا بهم بوشائج واسعة وعميقة على مدى التاريخ القديم منه والحديث، ونحن كما بقية الشعوب والبلدان عشنا حقبا ومراحلا شتى، تخللتها بالتأكيد الحروب والانتهاكات من قبل جميع الأطراف، وقد تركت آثاراً واحقاداً وفواتيرا فكرية ونفسية عندنا جميعاً، وكذلك لدينا مع جيراننا محطات مترعة بالمشتركات في مجال التقارب الاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي والديني والمعرفي، ومثل ذلك عرفته جميع سلالات بني آدم، وعلى سبيل المثال البلدان الأوروبية والتي نهشت بعضها البعض في الحربين العالميتين (الأولى والثانية) لكنهم تجاوزوا كل ذلك الى ما يعرف اليوم بـ (الاتحاد الأوروبي) وعملته المشتركة (اليورو) وذلك من خلال انظمتهم الديمقراطية ودساتيرهم التي تنتصر للإنسان وحقوقه من دون تمييز على أساس “الهويات القاتلة” وهذياناتها التي ما زالت لها اليد الطولى في مضاربنا المنحوسة.
نعم، ما زلنا مثقلون بفواتير وسكراب ذلك الإرث من انظمة العبودية والتعصب والجهل والإذلال، ولم نتعافى كعراقيين وبالرغم من مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على زوال نظام الرسالة الخالدة والقادسيات؛ من حطام العقائد والهلوسات، الذي سحق تطلعات كانت مترعة بالمشاريع الحضارية، لتتحول الى سلسلة من الكوارث والكوابيس ما زالت متواصلة ليومنا هذا. لم نتمكن من صنع الانعطافة المطلوبة صوب التحولات الديمقراطية والتعددية والحريات، وما زلنا نتخبط بأوهام ومناخات تعيد تدوير نفس الطبقة السياسية (الانتخابات الأخيرة 12/5/2018)، التي أهدرت وبالتضامن مع فلول النظام المباد وواجهاته الجديدة؛ هذه الفيض الهائل من الإمكانات المادية والبشرية والوقت والفرص، عبر إعادة إنتاج ثارات القرن السابع الهجري وملحقاته من الهموم والاهتمامات التي انتهت صلاحيتها منذ قرون. علينا ايجاد السبل للتخفف من هذين الوبائين (شيطنة كل ماهو ايراني، والتبعية لكل ماهو ايراني) واللذان يستمدان حيويتهما من مستنقع واحد. كما ان هذين الموقفين البعيدين عن كل ما له صلة بالعافية والتوازن، لا يخدمان في نهاية المطاف لا مصالح العراق ولا ايران، لأن حاجة البلدين تتمحور حول حلهما لقضايا بناء الدولة الحديثة وتشريعاتها الديمقراطية التي تتيح لكلا البلدين فرصة إعادة بناء العلاقات بينهما على أساس راسخ من الأمن والاستقرار والازدهار والمصالح المشتركة. عندها لن نكون بحاجة لصرخات “ايران بره بره..” ولا الى ايران تاج الراس وغير ذلك من هتافات ويافطات وقادسيات بائسة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة