لعنة الشعارات

ما يجري من تدهور وتوتر غير مسبوق في العلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية إيران الإسلامية، يمكن قراءته بوصفه امتداد لذلك المشوار الذي سارت عليه تلك العلاقات، منذ لحظة إسقاط الثورة الشعبية (العام 1979) لاحد أهم حلفاء أميركا في المنطقة (نظام الشاه) الى يومنا هذا، حيث فشل كلاهما في صياغة سياق جديد للعلاقات يضمن مصالحهما المشتركة، وفقا لحاجات البلدين ضمن الأوضاع الدولية المتجددة. لقد ألقى ذلك المنحى الخطر للعلاقات بينهما بظلاله القاسية لا على مصالحهما وبنحو خاص مصالح واستقرار إيران وحسب، بل شمل بقية دول وشعوب المنطقة والعالم، كما دونته عواقب وتداعيات ما بعد ذلك، حيث فقدنا جميعاً فرص الأمن والاستقرار والازدهار الذي حصدته غير القليل من البلدان في العقود الأربعة الأخيرة من تاريخنا الحديث، عندما لم تتورط بما يمكن أن نطلق عليه بـ (لعنة الشعارات) والمسارب اللآيديولوجية الضيقة، ولنا كعراقيين تجربة مريرة مع مثل هذه التجارب الخائبة، عندما أوصل النظام المباد و(رسالته الخالدة) بلد من أثرى البلدان ماديا وقيميا وتطلعاً (العراق) الى ماهو عليه اليوم من انحطاط وتخلف وفقر وتشرذم، ومن سوء حظ هذا الوطن ان يحظى بخلفاء لذلك النظام، لا يقلون تبعية وذيلية لسكراب (الرسائل الخالدة وبضائعها النافقة من الشعارات) التي لم تقتل سوى حاضر ومستقبل من نكب وابتلى بها من شعوب وقبائل وملل. ليس هناك أدنى شك من إهدار حكومات طهران المتتالية، للعديد من الوقت والفرص لتقويم مسار العلاقة مع واشنطن، وبما يخدم مصالح شعوب بلاد فارس على المدى القريب والبعيد، وهذا ما أدركه أحد أكثر الشخصيات نفوذاُ في الثورة والجمهورية الإسلامية (الشيخ هاشمي رفسنجاني) قبل رحيله المفاجئ، غير ان (لعنة الشعارات) إرث الثورة لمشروع الدولة أبى إلا أن يستحوذ على الكلمة الفصل عند هذا المفترق التاريخي الحاسم، حيث رحل صاحب السطوة والنفوذ (رفسنجاني)، تاركاً أمر حل هذه المعادلة لأفراد وجماعات يفتقرون للشجاعة اللازمة على مواجهة حقيقة أن الشعارات لها عمرها ووظيفتها التحريضية المحدودة، لتنتقل بعد ذلك الى حيث متاحف التاريخ وأضابيره.
اليوم وبعد التدهور السريع الذي شهدته العلاقات بين واشنطن وطهران، ومع عودة سياسة الحصار التي عززها الرئيس (ترامب) بشكل أكبر وأقسى من السابق، وجدت إيران نفسها ضمن ظروف وشروط تزداد صعوبة يوماً بعد آخر، مع التدهور السريع بقيمة الريال الإيراني حيث فقد أكثر من نصف قيمته بعد الوجبة الأولى من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية على إيران، مما ألحق أضراراً بالغة بالاقتصاد الإيراني والمواطنين الإيرانيين (أفرادا وجماعات). مقابل هذا كله ما زالت التصريحات المتشددة من قبل طرفي النزاع تتصدر ما نشيتات الصحف والمنصات الإعلامية. إن التحدي الذي يواجه الإيرانيين ويعيق حركتهم في امتلاك سياسات براغماتية، تضع نصب عينيها المصالح العليا لوطنهم وأمتهم يتركز في الكثير من جوانبه، في كيفية التخفف من وزر ذلك الإرث من شعارات الثورة، والتي تضمنتها العديد من خطب زعيمها الراحل آية الله الخميني، حيث لا يجرأ خلفاؤه على اتخاذ قرارات شجاعة ومسؤولة، تنتصر للحياة وديناميكيتها على حساب شعارات فقدت روحها منذ زمن بعيد. أما من ينتصر للتحديات الواقعية فمصيره الإقامة الجبرية أو المنافي بعيداً عن ايران الشعارات والديناصورات. لكن للواقع وحقائق التاريخ وما تمتلكه إيران من إمكانات واعدة، يتيح لها طرق سبل الواقعية والحكمة بعيداً عن حطام الشعارات واليافطات الشاحبة، وكما يقول المثل: ان تصل متأخراً خيرا من ان لا تصل أبداً…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة