في زمن يزداد خصخصة وتخصصاً وانفتاحاً لصالح قيم الأمن والاستقرار والسلم والعيش المشترك، تندفع جماهير «خير أمة» الى حيث مطموراتها وعدتها المبجلة، في مجال فقه ذات الشوكة والمخالب والخناجر ورشاقة الطعنات وورش تصنيع الملغمات والعبوات الثابتة منها والمتحركة. وبما ان ارتعاشات بوصلتها الاساس لا تخرج عن حدود تضاريسنا المحلية، حيث تتصاعد وتيرة الفتك ببعضنا البعض تحت شتى مختلف الذرائع والبيارغ الصدئة، لذا يمكن ان نطلق على ابتكار ما بعد الحداثة هذا اسم (فقه الخرمشة).
هذا الانجاز التأريخي الذي نسجته سلالات العلماء والفقهاء والجماعات والمختبرات المعنية بعلوم السماء، يحرر عيال الله من كل ما له علاقة بحاجات ومغريات الدنيا الزائلة، أو كما اختزلته عبقرية الاشقاء النيجيريين بـ(البوكو حرام).
فقه الدمار الشامل هذا لم يأتِ من فراغ، كما ان هذه المخلوقات المدججة بالازياء الباكستانية والعقائد النجدية وخلطة جمهورية الفقيه، هي نتاج شوط طويل من العجز والاحباط استثمرته المؤسسات والملاذات التقليدية، لتنتج لنا كل هذا العار الحضاري الذي يميزنا بين الامم. ومن يتوقف قليلاً مع المغزى الفعلي لسلوك وممارسات أحدث اطوار فقه الخرمشة والمتمثل بـ(داعش) يدرك سر قوة وفاعلية هذا الفايروس المتخصص بالشعوب والقبائل والملل المذعورة.
ولم يعد سراً أمر الهزائم التي لحقت بهم في المناطق التي دافع سكانها بشجاعة عنها، ومثل هذه المعطيات تبرهن على ان (الكائنات المذعورة) هي الحاضنة الاساس لمثل هذه الانبثاقات القاتلة. لذا تعد امتدادا طبيعياً ووارثاً شرعياً لانظمة القهر والاستبداد المتهاوية، وفي العراق وبالرغم من مرور أكثر من عقد على زوال جمهورية الخوف ما زال علمها يرفرف على سارية دولة الفتح الديمقراطي المبين، حيث لا يشعر الولاة الجدد بأية غربة مع هذه الراية غير الوطنية والمثقلة بالرموز البعيدة عن قيم الحقوق والحريات التي انتظرناها طويلاً من دون جدوى. في مثل هذه المناخات يشتد الطلب على مثل هذه السلع القيمية والاجتهادات المعطوبة، ولا يحتاج المتابع المنصف الى جهد كبير، كي يكتشف حجم الهيمنة التي تمتلكها هذه الجماعات والعصابات المتغولة على المفاصل الحيوية للمجتمعات والدول، وابرز مثال على ذلك سطوتهم شبه المطلقة على المؤسسات الاعلامية والثقافية بفعل برنامج التدجين المرافق لعمليات الارهاب والتخويف الواسعة في العقود الاربعة الاخيرة (منذ نهاية السبعينيات)، حصاد هذا الشوط من الهزائم الحضارية يتجسد اليوم بالفظائع والجرائم التي نضحت عنها هذه البرك الآسنة والمتقيحة تحت مرأى وعدم مبالاة ما يعرف بالعالم الحر والمجتمع الدولي، والذي أدرك بعد غزوة منهاتن عاقبة العبث مع المخلوقات التي لم تعد تجيد غير فن الخرمشة.