لو طخه لو طلع مخه

لأسباب تتعلق بما مر به العراق وأهله من محطات غلبت عليها الهزائم السياسية والحضارية، جفت لدينا بشكل مريع تقاليد النشاط العملي والنظري المقرونان بالشجاعة والمسؤولية، وهذا ما يمكن ملاحظته لدى الكثير من المتنطعين لقضايا الشأن العام، إذ يندر أن تجد بينهم من يلتفت قليلاً لمدى تناغم مواقفه النظرية والعملية مع ما أفرزته الأحداث والمعطيات، لا سيما تلك التي كشفت عن بؤس وخواء وتنافر مع ما دونته صخرة الواقع، وهذا لا ينحصر مع ما جرى من أحداث وتطورات في عراق ما بعد “التغيير” بل يمتد الى عقود ما قبل ذلك، حيث ظلت والى يومنا هذا “جفصاتهم” على شتى الأصعدة من دون مراجعة ولا حسيب ولا رقيب، وهو ما يذكرنا بعبارة شهيرة لكارل ماركس عن أشباههم: (نكرات من الناحية النظرية ولا فائدة ترجى منهم من الناحية العملية). مثل هذا السلوك والسبل ليس شائعاً عند ما يعرف بـ “النخب” وحسب بل نجده واسع الانتشار لدى قطاعات واسعة من عامة الناس، بعد سلسلة الهزائم التي لحقت بمصدر قوتهم وحيويتهم، أي التعددية والثراء الثقافي وقيم الحداثة والحريات وما يرافقها من تهذيب وتنظيم وتقاليد.
لهذه الأسباب والمناخات شرعت أبواب المشهد الراهن أمام تسلل غير القليل من المسكونين بعبارة الدمار الشامل (لو طخه لو طلع مخه) والذين يتقافزون بكل خفة من ضفة اليأس والقنوط الى ضفاف الانتفاضة والثورة المستعرة في عقولهم فقط، ليعودوا سريعاً الى شرنقاتهم الساكنة مع حفنة إضافية من السخط والغضب ضد الجماهير والنخب التي لم تقدر ما سطروه من تضحيات ومآثر. وشخصياً أعرف الكثير من هؤلاء الذين يصعب كبح جماحهم عند الصوبين (طخه) و(طلع مخه) حيث تجدهم مع ارتفاع منسوب الغضب في الشارع لدوافع شتى، بعضها لا علاقة له بما يدور في مخيلاتهم، يسارعون لامتطاء شعارهم العتيد “عليهم يا رجال” كما لمست ذلك عند بدء تظاهرات شباط من العام 2011 في ساحة التحرير، حيث انبرى البعض منهم للتبرع بتأسيس هيئات أركان سياسية وتنظيمية، لقيادة الانتفاضة الموعودة، ولم يمر وقت طويل حتى انتقل الكثير منهم الى الضفة الاخرى بانتظار موجة أخرى صالحة للتزحلق والامتطاء.
ان هذه العبارة التي اخترتها عنواناً لعمود اليوم، يمكن اقتفاء أثرها ونفوذها على الكثير من تجليات المشهد الراهن، السياسية والإعلامية والثقافية والاجتماعية وغيرها، لا بل يمكن مشاهدتها في العديد من هتافات ويافطات التظاهرات الاخيرة منها على سبيل المثال لا الحصر؛ المطالبة بالعودة الى النظام الرئاسي، وهي تجسيد كامل للشق الثاني من العبارة (طلع مخه) وهي آخر ما يحتاجه هذا الوطن الذي فرط بمخ وعقلانية سكانه أكثر مما نزف من دماء وأرواح وفرص وثروات. من الشعارات التي تؤكد عدم وجود أي أثر لما يتوهمه البعض (الانتفاضة والثورة وغير ذلك من مشتقات شعار “عليهم يارجال”) شعار (كلا كلا للأحزاب) والذي يتضمن مشاعر وأحاسيس مشروعة وصادقة ضد جماعات لا علاقة لها بمعايير الحزب السياسي بالمعنى الحديث للمصطلح، وهو مؤشر جيد، لكن ليس على الانتفاضة والثورة، بل الى بدايات جديدة ووعي بضرورة امتلاك زعامات وتنظيمات سياسية واجتماعية ومهنية، قادرة على استرداد وتفعيل حقوق العراقيين المدونة بدستورهم الحالي، لا ضخ المزيد من الأوهام والشعارات الجميلة التي لا تمتلك أدنى حظ لها مع ما نمتلكه من إمكانات واقعية على التغيير والإصلاح..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة