نجم والي
«ملائكة الجنوب»، برزت الجملة أمامي بعد دخولي المقبرة مباشرة، لمحتها تلمع على قاعدة المرمر الأبيض، كما خطتها يدي قبل قرابة نصف قرن باللون الأزرق، بالتحديد تحت الصليب الضخم المصنوع من الرخام ذاته، لم تعد هناك أشجار نخيل عالية ترتفع وسط الحديقة الواسعة تحجب الرؤية كما في الماضي، مثلما لم تعد هناك أشجار النبق التي انتشرت تحت ظلال النخيل في كل مكان. أما الشاهدة الضخمة التي ثبتت خلف الصليب مثل جدار من رخام أسود نُقشت عليه أسماء القتلى من الجنود، فقد تحولت إلى جدار. باستثناء الجملة، لم يعد شيء يُذّكر بالمكان القديم.
شعور غريب، قلت لنفسي، لابدّ سيتملك كل من زار المكان في الماضي، فقد اختفت حتى البوابة الداخلية المصنوعة من أضلاع حديدية مدببة، ولو لم أرَ عجوزاً بدا ظهرها منحنياً، وهي تتكيء على عصا، وترتدي عباءة تلمع في ضوء الفجر، لو لم أرّ العجوز هذه تقترب من ثلاثة شبان جلسوا عند البئر المحاذية للصليب، عند الجهة الوحيدة الخفية من قاعدة التمثال، لظننت أنني الزائر الوحيد للمقبرة في ذلك اليوم.
كان الوقت، بين الخامسة والسادسة صباحاً، عندما استيقظت في الصباح، بالضبط في تلك الساعة التي واظب فيها جدي على الخروج إلى العمل في المقبرة. بدا الشّبان منهمكين في خلط مسحوق ما، لأنني سمعت صوت ملاعق، كمن يخلط السكر بالشاي، اثنان منهما أسندا ظهرهما إلى قاعدة المرمر، في حين جلس الثالث في مواجهة الجدار الأسود المتهدم، على عكس صديقيه اللذين جلسا مواجهين للجهة الجنوبية من المقبرة، حيث البيت الحجري الصغير الذي يقع في زاويتها، والذي لدهشتي لم يتهدم منه إلا جزء صغير. المخزن لا غير.
تطلعت حولي، كان كل شيء ساكناً، سوى نسمات الفجر التي حركت أطراف بعض شجيرات ياس في أماكن متفرقة عند الممر. ربما خفق جناح قُبرة، ربما نعيق غراب يأتي من بعيد، ربما نباح كلب أو نهيق حمار، ربما صياح ديك أو طنين فراشة. باستثناء ذلك، خيم هدوء مريب على المكان، تخلله من حين إلى آخر وبإيقاع متناسق، ضرب ملاعق وهمسات وأصوات، حتى العجوز لمحتها تٌسلم الشبّان شيئاً ما وتختفي ناحية البستان خلف المقبرة. لبرهة، لمحت طيراً ينزل بمنقاره حيث الشاب الذي جلس في مواجهة الجدار الأسود، ثم رأيت الشاب ينهض كأنه أراد اللحاق بالطير قبل أن يوقفه صوت زميله المتثاقل قليلاً: «دع المسكين يأخذ حصته التموينية!».
كانت تلك اللحظة هي التي رأيت فيها الشاب يتطلع إليّ، من دون أن يخفي دهشته. بدا صوته هو الآخر، فيه بقية نعاس.
«صباح الخير، أستاذنا، تقدم»، قال، وهو يشير ناحيتي، «كنا نتوقع مجيئك في أية لحظة».
تقدمت وعندما صرت قريباً منهم بدا زميلاه غير مكترثين كأن وجودي أمر طبيعي.
«تفضل، انضم إلينا».
قال أصغرهم الواقف.
كانوا في أواخر العشرين تقريباً، أما هو فقد بدا أنه في بدايتها، وكان يحاول أن يكون أكثر لطفاً من الاثنين الآخرين. لم يبدُ على وجوه الثلاثة شيء يعبر عن الانزعاج من وجودي، كأنهم توقعوا مجيئي في كل لحظة؛ كأنني بدوت بالنسبة لهم جزءاً غائباً من المقبرة قد عاد. كان عليّ أن أسترد أنفاسي قليلاً، كانت الملابس الرثة التي بدت كأنها لم تُغسل منذ دهر طويل، ولحاهم التي نمت بفوضى، وعيونهم المرهقة، المليئة بالنعاس، والتجاعيد التي تحت أجفانها، ولوكهم للكلمات، كل ذلك بدا للوهلة الأولى مريباً. بدا لي أولئك الشبان أشبه بشخصيات من روايات فكتور هوغو أو تشارلز ديكينز، وليسوا بني آدميين من لحم ودم جلسوا في مقبرة سُميت ذات يوم بالإنجليزية، في جنوب بلاد كان اسمها الجمهورية العراقية، في مدينة كان اسمها عماريا، ولو لم تكن الكلمات جسراً ربط بيننا، لو لم نتبادل الحديث لما تأكد لي أن المشهد الذي أراه كان حقيقيّاً، وأن الوقت ما زال مبكراً لكي أخترع على هواي قصة شرعت في تشكيلها منذ اليوم الأول من عودتي إلى المدينة، نعم مازال الوقت مبكراً لكي أقول، أنني أروي قصة، أصدق أنا أولا حقيقة حدوثها، فمن يروي قصة اختلط فيها الوهم بالواقع يصعب عليه التمييز بين الحقيقة والاختراع.
«صديقنا الوحيد، غصباً عنا!»، قال الشاب وهو يشير ناحية الفضاء، «كل صباح يأتي، في مثل هذه الساعة، يهبط فجأة ويأخذ حصته اليومية»، وعندما أكمل الجملة فهمت أنه قصد الطير الذي حلق بعيداً قبل قليل وغاب. هذه المرة أشار الشاب إلى الأرض، وطلب مني من دون اكتراث أن أجلس:
«انضم إلينا!»، قال، وهو يفرش كارتونة صغيرة، لكي أجلس عليها.
سلمت على الاثنين وجلست، قلت ، إنني للمرة الأولى هنا. لم يبديا أي رد فعل، كأن وجودي بينهم أمر مفروغ منه أقرب لروتين معتاد، لكن بعد فترة صمت قصيرة قال الشاب الذي جلس إلى جانبي، من دون أن يتوقف عن عمله:
«دائماً هناك مرة أولى، الطير جاء للمرة الأولى قبل ستة شهور، منذ ذلك اليوم، وهو يأتي كل صباح. نحن أيضاً جئنا ذات يوم للمرة الأولى. ها أنت ترى. حتى إذا جئت بعد سنوات، ستجدنا هنا».
ثم أكمل الذي كان جالساً في الطرف والذي واصل هو الآخر عمله:
«غريب. عادة الطيور تهاجر، تتنقل من مكان إلى مكان، باستثناء هذا الطير، صيف وشتاء، ربيع وخريف، يوميا يزورنا في الساعة نفسها وبالشوق نفسه…عجيب مسألة!».
فعلق الشاب الأول الذي دعاني للجلوس:
«واضح أعجبته خلطتنا، خلطة خاصة made in amaraتصنيع محلي أخطر من كل البومبات».
ثم التفت إليّ، وخاطبني، وهو يشير للخلطة التي انتهى منها:
« معلوم مسألة، راح تعجبك أنت أيضاً، تفضل».
ثم سلمني الخليط قبل أن أعلق، قبل أن يعرف، إذا كنت أرغب بالفعل في مشاركتهم أم لا؟ ثم أضاف بصوت جاد: «هذه خلطة الطير، بعدها خلطة الديك، وراءها خلطة القط، ثم خلطة الحصان، ثم خلطة الحمار، وبعد خلطة الحمار تأتي خلطة الرجال…أي خلطة تعجبك».
أمسكت الملعقة التي مدها نحوي، ورأيت المسحوق في داخلها، طحين أبيض، حرّقه بعناية، ليبدأ في إعداد خلطته التالية: «خلطة الديك».
عندما استيقظت في ساعات الفجر الأولى ارتديت ملابسي بسرعة، ولم أخبر أحداً في البيت، توجهت إلى المقبرة. لم أتخيل أنني سألتقي بشباب من المدينة يخلطون المخدرات على راحتهم. في شبابي أيام السبعينيات كانت هناك مخدرات، لكنها كانت على شكل أقراص، «حبوب» كما كنا نطلق عليها، وكانت شلتنا تحصل عليها عن طريق أحدنا، كان أخوه يعمل في «صيدلية الشفاء» في شارع المعارف: «ميندريكس»، «ميتودين». أما حبوب الفاليوم الذي أدمنته أمهاتنا، فكنا لا نفضلها بسبب خفة مفعولها، وكنا نسرقها من أمهاتنا مضطرين فقط في حالة عدم توفر الأقراص الأخرى، أو كنا نخلطها أحيانًا بالعرق أو البيرة.
لم أحدثهم عن ذلك، ولا عن سبب زيارتي للمقبرة هذا الصباح، في أول صباح أستيقظ فيه، في ساعة مبكرة من ساعات الفجر، وقبل شروق الشمس، بعد ثلاثة وعشرين عاماً من رحيلي عن المدينة، مثلما لم أحدثهم عن جدي الذي عمل قرابة نصف قرن بستنجيا في المقبرة الإنجليزية والمقبرة الثانية المواجهة لها، التي سُميت المقبرة الهندية، لكني رويت لهم قصة أخرى، كيف أنني عندما كنت في الخامسة أو السادسة من عمري كما أظن، وجئت إلى هنا مع صديق لي، حملت قرابة لتر من النفط الأبيض أو الأسود، النفط الذي استعملته أمهاتنا لملئ الـپريمزات، أدوات الطبخ البدائية، ظنًاً منا، أننا سنسكر عند شربه، «خلطة الحمار بالتأكيد»، قلت لهم ضاحكاً، لم نجلس آنذاك عند البئر، إنما جلسنا عند البوابة الرئيسة لمدخل المقبرة، في المساحة الدائرية التي فصلت المقبرتين عن بعضهما، خبأنا القنينة خلف أحد أضلاع حاجز المقبرة في الدغل الكثيف خلف القبة الأمامية للمقبرة الانجليزية. الغريب أنني فقدت الوعي، على عكس صديقي الذي لم يحدث له شيء، ربما أسرفت في الشراب وأنا أقلد الرجال الكبار الذين يمرون كل يوم في ساعات المساء الأولى، في طريقهم إلى بستان الخس الواقع على نهر الكحلاء، حاملين عدتهم: قناني عرق ماركة «المَسِيح»، وقطع ثلج كبيرة (بلوك)يحملونها في أيديهم أو في سطل صغير، وأقداح من البلاستيك، قبل جلوسهم على العشب، ليبدأوا الشرب ومعهم دائماً راديو ترانسيستور، أما مزتهم فكانت خَسْ البستان، ونبق، ورارنجي من الأشجار التي انتشرت بمحاذاة السياج الذي فصل المقبرة عن البستان.
«والآن تحمل عدتك من جديد؟».
سألني الشاب، وهو يشير إلى الحقيبة الصغيرة التي علقتها على كتفي، والتي حملت قصاصات قديمة، إلى جانب صور هي الأخرى قديمة، بعضها التقط في المقبرة، حتى تلك الصورة التي وقفت فيها بمحاذاة نصب الصليب قرب البئر، عند قاعدة المرمر مباشرة وأنا أشير بيدي إلى الجملة التي نقشتها بلون أزرق هناك.
«إذن تلك الجملة من وحيك؟»، سألني الشاب عندما أريته الصورة التي ظهرت عليها الجملة واضحة.
سمعت الشاب الثالث الذي جلس إلى يميني يعلق: «عجيب مسألة، الجملة هذه يراها المرء هذه الأيام في كل مكان»، ثم التفت إليّ وأعطاني علبة معدنية قديمة، كانوا وضعوا فيها المسحوق الأبيض، «هذه العلبة مكتوب عليها الجملة نفسها، ملائكة الجنوب».
كانت إحدى علب ماركة «دبس العروس»، القديمة (وليست من تلك العلب الجديدة للماركة ذاتها التي أُعيد تصنيعها بعد مصادرة معمل دبس العروس، لكن من دون الصورة الأصلية التي رُسمت عليها)، أمي هي الأخرى لا تزال تحتفظ ببعض العلب القديمة، تذكرها دائماً، كما قالت لي، بالزمان القديم، كل شيء حلو بمذاق «دبس العروس» بالنسبة لأمي، وذلك ما جعلها تقاوم إغراء فتح العلبة طوال هذه السنوات، اليوم صباحاً رأيت العلبة ذاتها على مائدة الإفطار في المطبخ قبل خروجي، كأنها أرادت أن تقول لي «جرب أنت فتحها إذا شئت»، كانت تعرف أنها ماركة الدبس الوحيدة التي عشقتها مصراً على خلطها مع القيمر في إفطاري، وعندما نفدت العلب الوحيدة التي احتفظنا بها من الماركة القديمة، قبل أن تظهر الماركة الجديدة، ماركة «دبس العريس»، وعليها صورة لرجل بشارب ثخين يُفترض أنه العريس، حزنت أكثر من أربعين يوماً، ليس بسبب مذاق الدبس المدهش وحسب، الذي يظل طعمه ملتصقاً طوال اليوم باللسان، بل فعلت ذلك أكثر بسبب حلاوة الصورة التي نُقشت على العلبة، صورتها هي، ملائكة، ابنة الدكتور داوود گبّاي، تلك الصورة التي دارت حولها القصص والروايات منذ أن نقشها بيده نقّاش الذهب نور أو الملاك كما أطلق عليه سكان المدينة، النساء خاصة، قبل ولادتي ربما بتسع سنوات، ومنذ أن نطق بتلك الجملة صديقه نعيم عباس الذي اختفى وتبخر مع الهواء، قيل أنه أصغر شاعر عرفته المدينة، لكن باستثناء تلك الجملة التي نُسبت إليه، لم يشأ أحد الحديث عنه أو عن عائلته، كأن المدينة اتفقت على كتمان الأمر، حتى جدي كان يقول لي، عندما اسأله عنه، من الأفضل الاحتفاظ ببعض القصص إلى وقت آخر، «الطريق طويل للوصول إلى القصة، يا حفيدي».
«هل كانت بهذا الجمال؟».
سألني الشاب نفسه، وهو يواصل استنشاقه للمسحوق. كانت ملائكة آنذاك في السادسة أو السابعة من عمرها بجديلتين شقراوين وبعينين زرقاوين. بدت في ضحكتها مثل عروس بالفعل، أكثر جمالاً من عروس «باربي». ومنذ ذلك الحين، منذ نقش مع الصورة تلك الجملة ، لم يصبح الدبس المفضل لسكان مدينة عماريا هو «دبس العروس» وحسب، بل تحولت ملائكة ذاتها «ملائكة الجنوب» إلى عروس البلاد بلا منازع. ها هي صورتها لا تزال واضحة أمامي على العلبة، مثلما رأيتها للمرة الأخيرة قبل رحيلها، وأنا في الحادية عشر من عمري، لا يهم الخدوش التي تعرضت لها الصورة، لا يهم الزمن الذي مر عليها فهي لا تزال تحتفظ، ببهائها، على العلبة، هناك.
«ما قصة تلك الجملة؟»، سمعت أحدهم يسألني، وهو يشير برأسه ناحية قاعدة الصليب الضخم الذي استند على قاعدة المرمر الأبيض.
«بل ما قصة ملائكة؟»، فضلت الصمت، وكأنني تعمدت إضافة الغموض على قصة لم أعرف كيف أبدأ في روايتها، ليس لأنني لا أعرف عن ملائكة الكثير، وليس لأنني لم أعرف قصتها مع نقّاش الذهب نور أو الملاك وصديقه نعيم، بل لأنني كنت أعرف أنني ما إن أبدأ في رواية قصتها أو قصتهم ثلاثتهم حتى أجد نفسي أروي قصة المدينة كلها، عماريا، ولأن «لكل قصة زمانها المناسب»، كما قالت حكمة أخرى نطقها جدي أمامي، كنت على يقين أن الوقت لم يحن بعد لروايتها، كان اليوم الأول من عودتي إلى المدينة، ما زلت أحتاج إلى الكثير، لأضيفه لهذه العدة التي حملتها معي.
«هل أنت الذي كتب تلك الجملة أيضاً؟»، سألني الشاب وهو يشم المسحوق الأبيض، وكان يقصد الجملة المكتوبة على العلبة هذه المرة.
«يا ريت»، أجبته متحسراً، وبدا مثل الأبله، وكأنه لا يريد أن يشغل نفسه.
«ربما تفيدك العلبة، عندنا علب كثيرة منها نستخدمها للخلطة..أعتقد الناس هناك»، قال وهو يشير ناحية البيت الحجري، «يتركونها لنا كلما نأتي كل صباح، كل يوم نجد العلبة في مكانها، لا ندري إذا كانت العلبة نفسها بعد تنظيفها، أو هي علبة جديدة».
سألته، إذا كان هناك أحد لا يزال يقيم في البيت الحجري، خاصة وأنني لمحت العجوز تتحرك في ذلك الاتجاه قبل ثوان. تلفت الشاب إلى صديقيه، كأنه أراد أن يعرف، إذا ما كان عليه أن يقول لي شيئاً أو يخفيه، بالتأكيد تفاهم الثلاثة على لغة تخصهم، لغة من الصعب على غريب مثلي معرفتها، ذلك ما لم توحِ به حركة الشاب وحسب، بل تغييره لنبرة صوته أيضاً، كأنه أراد أن يحسم الأمر بسرعة، أحنى رأسه، وأجابني بصوت واطيء:
«البيت فارغ، لكن من حين إلى آخر تأتي امرأة عجوز ضعيفة النظر تنظف قاعدة الصليب تماماً عند المكان الذي خُطت الجملة عليه، لكنها تقضي معظم وقتها في العناية بالحديقة، ترش الماء على شجيرة الياسمين تلك وكأنها تريدها أن تنمو بسرعة وتغطي المكان كله»، قال وهو يشير ناحية مساحة الأرض التي امتدت بين البيت الحجري وقاعدة الصليب، «لم نسمع العجوز يوماً تتحدث بشيء، تُسلم علينا فقط، تلوح بيديها من بعيد. لم تتدخل في عملنا ولم نتدخل في عملها!».
«إنه بالضبط المكان الذي أوصى أن يُدفن فيه الميجر كاولي حاكم المدينة قبل قرابة نصف قرن»، قلت لنفسي، وأنا أتذكر إحدى قصص جدي، قال، «حتى الميجر كاولي كان يعتقد ماكو جنة أحلى من المقبرة الإنجليزية؟»، أتذكر أن شجيرة ياسمين أحاطت بالقبر، عزلته قليلاً وجعلته أقرب للحديقة الصغيرة التي تقدمت البيت الحجري. باستثناء ذلك لم يكن في القبر ما يلفت النظر، باستنثاء بيت شعري حُفر على البلاطة، «العشب يغني فوق القبور الساكنة»، قيل إن مستر تي.إس إليوت، المفتش الإنجليزي الذي كان يأتي أربع أو ثلاث مرات كل سنة لتسليم رواتب البستنجية، وتفقد سير العمل في المقبرة كتبه ردّاً على جميل صديقه الميجر الذي علمه كتابة الشعر. لكن حتى الشاهدة تلك كانت بلاطة واطئة لم تختلف عن بقية البلاطات التي تقدمت القبور الأخرى.
«جاء الإنجليز قبل أيام وحفروا خلف الشجرة. يقولون إنهم يبحثون عن قبر هناك»، قال الشاب ذاته، ثم أضاف، «قبل يومين سألنا العجوز إذا كانت في حاجة للمساعدة، لم تقل شيئاً، اكتفت بهزّ رأسها:
«أراك تصفن كثيراً؟»، قال الشاب نفسه، وهو يحدق في وجهي.
لا أدري إن كان قوله بسبب الفضول الذي ظهرت علاماته على وجهي حين تحدث عن العجوز، وقبل أن أسأله عنها سمعته:
«ألم أقل لك؟ دائماً هناك المرة الأولى».
التّفتُ ناحيته بشيء من الاضطراب، سألته، ماذا يقصد، فأجابني بإشارة من رأسه، فانتبهت إلى أنني طوال الوقت ومن دون أن أدري كنت أشاركهم في إعداد خلطاتهم، جاءني صوت الشاب:
«ها أنت تصل إلى خلطة الصفنات، خلطة القط،!».
ضحك وطلب مني المعذرة، قال، إنه آسف لهذه التسميات، لكن تلك ماركتهم الخاصة بهم، ولا يريدون التنازل عنها، الماركة هي المهمة، والاسم حيادي بالنسبة له، ليس له علاقة بالحيوان.
كما يبدو فقد أصبح الأمر منتهياً لكي أسأله عن أمر الخلطة، فإذا كنت وصلت إلى خلطة القط، فهذا يعني، أنني شممت خلطة الطير وانتهيت من خلطة الديك أيضاً، وماذا عن خلطة القط؟ ربما عليّ التوقف هنا، قبل أن أتبعها بخلطة الحصان، إنه ليس بوقت الصهيل الآن، يجب عليّ أن أنهض وأغادر، عجيبة هي الصدفة، قلت لنفسي، قبل قرابة واحد وأربعين عاماً جئت إلى هنا مع صديق طفولتي ليث، شربنا قرابة ربع لتر من النفط الأبيض قبل أن يعثر علينا نور أو الملاك، أخوه، نقّاش الذهب، ويحملني أنا فقط (لأن ليث ويا للغرابة لم يحدث له شيء، ربما خدعني ولم يشرب بالفعل، أو أنه تحمل الشرب، لأنه كان يكبرني بسنة أو سنتين!( إلى عيادة الدكتور داوود گبّاي، وعندما فتحت عيني، شعرت بيد تمسد جبهتي، وسمعت صوتاً يأتيني، هامساً في أذني: «عماريا، عماريا، اسمعي الملائكة تغني»، رفعت رأسي فرأيت ملائكة، تبتسم، وتلوح بيدها، لم أعرف في حينه، إن كانت تريد أن تقول وداعاً، أم تستقبلني بإشارة يدها تلك، وعندما تطلعت حولي، رأيت نفسي ممدداً على سرير من الجلد في عيادة أبيها فعرفت أنني أعيش، ثم سمعتها تردد أغنية لم أنسَها قط:
«عماريا، عماريا، اسمعي الملائكة تغني».
تلك القصة رواها لي أبي، لأن ما بقي في رأسي حينها صورتها فقط، هي ملائكة، وكل ما جاء قبل وبعد تلك الصورة، ما كان يمكن أن أتذكره، لولا جملتها تلك، ولولا يدها التي لم تتوقف عن ملامسة جبهتي، ما كنت عرفت أنني على قيد الحياة، وما كنت سمعت أباها يقول وهو يمازحني: «كيف حالك، أيها البحار الأرضي، بطل اليابسة؟»، في إشارة منه إلى ملابس البحرية التي لبستها وأنا طفل رضيع.
الآن؟ تساءلت مع نفسي، وأنا أقلب علبة ماركة «دبس العروس»، ماذا سيحدث لي، إذا تجاوزت خلطة القطة، من سيروي لي عندها:
قصة ملائكة….ملائكة الجنوب
قصة نور ونعيم وماركة دبس العروس
قصة المقبرة الإنجليزية والبيت الحجري القديم
قصة عماريا…وكل ما جرى لها..
قصتنا جميعاً…..
*فصل من رواية «ملائكة الجنوب» لنجم والي، المرشحة على القائمة الطويلة لجائزة يان ميشاليسكي الدولية للأدب.