لأسباب موضوعية وتاريخية وبعد سلسلة من الخيبات والهزائم الحضارية على شتى المستويات والحقول المادية والقيمية، نشأت لدينا شريحة من “المثقفين” مهووسة بنوع من “الهوايات” ألحقت أشد الضرر بالتطور الطبيعي لمجتمعاتها، إذ ينتابها بين يأس ويأس نوبة من الحماس والاندفاع لا تتوقف إلا عند سنام السقوف الثوروية، ليعودوا سريعاً الى حيث صومعات ومقاهي قنوطهم ويأسهم من “الجماهير” والنخب التي لم تقدر مواهبهم وعبقرياتهم ومآثرهم. مثل هذه الشريحة تعرفت عليها في المنافي نهاية السبعينيات من القرن المنصرم، والتقيت بغير القليل من ممثليها داخل الوطن بعد زوال النظام المباد، وبمقدور المرء التعرف عليهم عبر ما يجمعهم من تصرفات ومواقف وسلوك تجاه ما يحصل من أحداث وتطورات، حيث لن تجد لديهم؛ أدنى استعداد لمراجعة ما تمخضت عنه مواقفهم وقراراتهم المتهورة والمتسرعة وغير المسؤولة، من عواقب وآثار وتداعيات، وهم جميعاً يمتلكون احتياطيات هائلة من الذرائع والوسائل لتبرير كل ما يصدر عنهم من قرارات ومواقف طائشة وديماغوجية، حيث يعودون بعد كل (جفصة تاريخية) الى شرنقاتهم ومراكز تجمعاتهم الصاخبة بكل أنواع الثرثرات؛ لرتق ما تبقى من تنظيراتهم الرثة. المنتسبون لهذه الشريحة أصحاب “الهوايات القاتلة”، يصعب عليهم إدراك حقيقة كونهم جزءا من المأزق الحضاري والقيمي الذي يعيشه البلد، وهم بكل ما يتمتعون به من “عنتريات” في الفكر والممارسة والتطبيق والسلوك والقفزات الكنغرية، إنما “يزيدون الغركان غطه” كما يقول المثل الشعبي، وهم في نهاية المطاف غير مستعدون للاعتراف بكونهم ليسوا جزءا من الحل والبدائل التي ينتظرها المزيد من الجهد والفكر والوعي العميق والوقت كي تنضج وتتحول الى حقيقة وواقع. إن حال هذه الشريحة المثقلة بـ “الهوايات القاتلة” وعشق “الدقلات”؛ يتميز بالتذبذب الشديد وعدم الاستقرار على مهنة أو اهتمام محدد، لذلك تجدهم يتطفلون على شتى المهن والاهتمامات، من نشرهم لمجموعة شعرية الى إصدارهم لعدد من القصص ومن ثم رواية، ليظهر بعدها في عدد من المنابر والفضائيات بوصفه محللاً سياسياً أو خبيرا في الشأن الأمني والاستراتيجي أو قضايا النقابات ومنظمات المجتمع المدني، وغير ذلك من التخصصات العابرة. والأخطر من كل ذلك عندما تنتابهم النوبات لامتطاء طفح الاحتجاجات والتظاهرات ومشاريع الثورات المنحدرة لمضاربنا المنحوسة من مغارات الوقت الضائع لعصور الثورات والانتفاضات، وهي آخر ما يحتاجه هذا الوطن المنكوب، في محنته الراهنة حيث الهيمنة شبه المطلقة لهياكل وعقائد ومنظومات ما قبل الدولة الحديثة وتشريعاتها. إن خطورة أصحاب “الهوايات القاتلة” تكمن في الوظيفة والأدوار التي يؤدونها وما تتمخض عنها من آثار ونتائج مغايرة تماماً لما ادعوه أو وعدوا به، والأخطر كما أشرنا؛ هو عدم وعيهم لذلك وعدم استعدادهم للإقرار به، حيث ينسحبون بعد كل فزعة ودقلة من دون أدنى وجع من قلب وعقل وضمير، بعد أن يلقوا باللوم في ذلك على ترسانة المؤامرة والشياطين وتخاذل الآخرين وغير ذلك من شماعات وذرائع وأعذار جاهزة. ما جرى من أحداث وتصدعات وهزائم على شتى الجبهات، تحتاج الى جهود بعيدة عن الطيش والتسرع، والى التواضع والمسؤولية في التعاطي مع إمكاناتنا الواقعية على التغيير والشروع بطرق السبل المجربة لانتشال مشحوفنا المشترك مما انحدر اليه، وكل المعطيات تشير الى أن المشوار ما زال طويلاً، ولن تزيده الهوايات القاتلة إلا مزيداً من الخيبات والنحيب والعويل..
جمال جصاني
الهوايات القاتلة
التعليقات مغلقة