تطرقنا في العديد من الأعمدة والمقالات واللقاءات والمناسبات؛ الى واقع حال الإعلام العراقي قبل «التغيير» وبعده، الحكومي منه أو التابع للقوى التي تغولت بعد زوال سلطة (الذي إذا قال.. قال العراق)، ودور غالبية مؤسساته ودكاكينه في الهزيمة المتعددة الجبهات (حضاريا وسياسيا واقتصاديا وقيميا…) التي عصفت بشعوبه (جماعات وأفراد) طوال أكثر من نصف قرن من تاريخه الحديث (1963-2018)، وقد وضعنا قسطنا المتواضع في الكشف عن علل وجذور ذلك الانحطاط في دور ووظيفة «السلطة الرابعة» من الناحية الموضوعية والذاتية. لقد برهنت الوقائع والأحداث الكارثية لعراق ما بعد زوال الدكتاتورية، عن ذلك التردي والهوان في دور وسائل الإعلام، وتواطؤ غير القليل منها مع قوى الفساد والإجرام والإرهاب، وعن الفشل الذريع في صناعة إعلام دولة فاعل ومؤثر في مثل هذه المرحلة المصيرية التي يمر بها العراق. كل هذا بسبب إصرار حيتان الطبقة السياسية، على وضع أتباعهم وصبيانهم على رأس المفاصل الحيوية لهذا الحقل الأشد فتكاً وخطورة في حياة المجتمعات والدول.
من يتابع بموضوعية وإنصاف المشهد الراهن، لا يحتاج الى جهد كبير كي يكتشف ضعف وهشاشة الإعلام الرسمي، الذي يفترض أنه يمثل التجربة الديمقراطية الفتية، غير أنه والحق يقال؛ لم يحد عن الرسالة التي أنيطت به من قبل «أولي الأمر الجدد» نظرياً وعملياً، وهو بذلك يعد تجسيداً حياً للمثل القائل (من شابه أباه فما ظلم) حيث منظومة القيم والمعايير المعتمدة في بركه الآسنة، هي نفسها عند الطبقة السياسية التي أهدت العراق كل هذا الفساد والإجرام والفشل. تطرقنا هذه المرة، يأتي من أجل فضح كل هذا الضجيج والعجاج والعنتريات الفارغة، التي تدعي الإصلاح والتغيير، التي لم نشاهد شيئاً منها فيما يفترض أنه بوابة ذلك (الإعلام) لا شيء سوى الخطابات الرنانة والوعود التي تعرف طريقها جيداً، مما يعني أننا ما زلنا نتخبط بعيداً عن سبل الإصلاح الفعلية، والتي تشترط أولا وقبل كل شيء؛ استرداد وتحرير هذا الحقل الحيوي، من هيمنة هذا الطفح الهائل من أشباه الإعلاميين والدخلاء والمرتزقة والأتباع الأذلاء، على هذه المهنة المترعة بقيم الشجاعة والصدق والمسؤولية وروح الإيثار، وهذا ما لا يدركه ولا يطيقه ممثلوا الكارثة التي حلت علينا بعد «التغيير» وورثت ركاماً هائلاً من أسلافها في هذا المجال. ليس هناك أدنى شك من قدرة الإعلام على لعب دوراً حاسماً في مواجهة المخاطر والتحديات التي تحيط بنا، وهذا يتطلب قرارات شجاعة ومسؤولة تعيد الإعلام لأهله وملاكاته الوطنية المخلصة، والتي لا تعرف التذلل والتملق والخنوع وبقية القائمة الطويلة من عناوين الانحطاط طريقاً لمنظومتها القيمية الراقية.
من دون وضع الإعلامي المهني والشجاع في موقعه ومكانه المناسب، تتحول كل المشاريع حول الإصلاح والتغيير مجرد وسيلة لتسلل سلالات إضافية من اللصوص والقتلة والمشعوذين. الإعلام المهني والمسؤول وحده بمقدوره؛ إيصال المعلومة الحقيقية للمتلقي، عبر التصدي بالوعي العميق والأدوات الرصينة وروح المثابرة والإيثار، لكل محاولات التضليل والتزييف ونشر الأكاذيب، الرائجة والمهيمنة على عقول غير القليل من المتلقين والمتواصلين مع وسائل الإعلام التقليدية منها أو الحديثة (مواقع التواصل الاجتماعي والمنابر الإلكترونية..). صحيح، أنها مهمة صعبة وقد تبدو عسيرة لمشهد يزداد التباساً؛ غير أنها الخطوة التي لا مناص منها على طريق الألف ميل…
جمال جصاني
ارحموا إعلام قوم ذل
التعليقات مغلقة