موسم الاقتحامات…!

ليس هناك أدنى شك في نوع المخلوقات والشرائح التي قفزت الى مسرح الأحداث، وامتطت صهوة ما يفترض أنها تحولات صوب الديمقراطية، بعد زوال النظام المباد، وقد تابعنا وتابع العالم كله نوع المواهب والقدرات التي امتازوا بها، من رشاقة في التسلل والتمدد الى مفاصل الدولة الحيوية، وشراهة لا حدود لها في قضم كل ما يمكن أن يساعدهم على التورم أكثر فأكثر، وغير ذلك من استعدادات خارقة في هذه المجالات والاهتمامات. الديمقراطية ونظامها وثقافتها وتقاليدها المجربة، ومؤسساتها المتعددة الوظائف، وبالرغم من مرور 15 عاماً على “التغيير” لم تتمكن حتى هذه اللحظة من تحقيق موقع قدم لها بين بقية القبائل والجماعات المتدافعة عند أطراف الوليمة الأزلية “بستان قريش” وقد أكدت غير القليل من الحوادث والمعطيات أنها ما زالت “حايط نصيص” أمام هذا الطفح الهائل من القوى والجماعات والمصالح والهذيانات التي تورمت على حسابها. آخر هذه الابتكارات؛ هواقتحام أو التهديد باقتحام المؤسسات والهيئات الحكومية، كما حصل مع موجة الغضب التي انتابت عدد من “التجار” العراقيين مؤخراً، جرّاء قرارات اتخذتها هيئة الكمارك العراقية حول التعرفة الكمركية، حيث تجمعوا وهددوا باقتحام مبنى هيئة المنافذ الحدودية في العاصمة بغداد. ومن يتابع أمر هذا المنهج الخطير في التعاطي مع مؤسسات يفترض أنها تمثلنا جميعاً، بغض النظر عن انتماءاتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، نجد أن مثل هذه التصرفات والممارسات، قد تحولت الى أسلوب لم يقتصر على فئة أو شريحة محددة، إذ يحطم الفلاحون الغاضبون في محافظة عراقية، منشآت تابعة لوزارة الري والموارد المائية (ومثل ذلك الكثير)، كي يحققوا مطالبهم بالقوة ورغم أنف “الدولة” ومن دون أن يشعروا بأن عملهم هذا له عواقب أشد مرارة وخطراً على مصيرهم ومصير الأجيال المقبلة.
مثل هذه الظواهر الغريبة لا تمت بصلة لا من قريب ولا من بعيد، بالديمقراطية ومنظومة الحريات، وهي تعكس تدهوراً كبيراً في الممارسة والوعي، وحجم الانحدار السريع الى عالم الغابة، حيث كل مجموعة وكل فرد يعتمد على نفسه لأجل البقاء والاستمرار، كما أن هذه الظاهرة وغيرها الكثير في المشهد الغرائبي الراهن، تعكس فشلنا في التصدي للتحدي الأساس لهذه المرحلة الانتقالية؛ ألا وهو التأسيس لمشروع الدولة الحديثة ومؤسساتها الفاعلة، لا ترك الباب مشرعاً أمام مثل هذه الممارسات التي تجعل من الدولة ومنشآتها أهدافاً مشروعة ومستباحة (بوصفها أموال وأبنية مجهولة المالك) لكل من يجد في نفسه القدرة على “الاقتحام”..!
لا أحد ينكر واقع الفشل والفساد الذي تتخبط وسطه تلك المؤسسات والإدارات، من شتى الوظائف والتخصصات العسكرية أو المدنية منها، لكن ذلك لا يعفي ولا يستثني القوى التي تمارس منهج “الاقتحام” من أوبئة العجز والفساد ووجود التطلعات المتنافرة وروح المسؤولية تجاه المصالح العليا للعراقيين في هذه المرحلة العصيبة. فالمصيبة عامة وشاملة ولا تستثني أحداً (جماعات وأفراد)، وهي تحتاج منا قبل كل شيء؛ وعي حجم هذه المصيبة وجذورها، لا الانجرار لمثل تلك الأساليب والمواقف والممارسات البعيدة عن المسؤولية والانضباط، التي قد تحقق لـ (المقتحمين) شيئاً من مآربهم الفئوية الضيقة، لكنها في نهاية المطاف؛ تلحق أشد الضرر بالمصالح العليا والحيوية للعراقيين. دعونا نتعرف على ما أهدرناه من حقوق وحريات، بشكل طبيعي وتدريجي؛ كي نتمكن من استردادها عبر السبل المجربة، من دون الحاجة الى المزيد من العنتريات والاقتحامات..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة