يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 29
حوارات مع جرجيس فتح الله
لم يكن مبعث اهتمامي بشخصية الجادرجي ولاء له او اعجابا خاصا بأسلوب كتابته . وانا لم اقرأ له حتى ذلك الحين غير كراستين . فهو لا يعد من زمرة الكتاب السياسيين المبدعين الذين يسحرونك بسحر بيانهم . ثم ان اكثرية افتتاحيات الاهالي كان يكتبها محررون غيه من الكادر المثقف في الحزب وهي تظهر من دون توقيع فلا تتميز واحدتها عن الاخرى , بل كان اهتمامي بأمره وتقديري له نابعا من اصراره على نهج ديمقراطي اصيل ونظاله في سبيل تحقيق اصلاح شامل لجهاز الحكم على اسس دستورية سليمة وبضمان نزاهته وبأطلاب ذلك كغاية ونهاية . لا بأعتباره مرحلة لا بد منها للوثوب الى الاشتراكية على الخط الماركسي . وقد صمد داخل حزبه الذي رأى النور في 1956- لتيارات تتراوح بين اليمين واليسار – , وكان في كل رجة يفقد عناصر قوية فيه . بدأاولها بخروج عدد من المؤسسين بزعامة عبد الوهاب مرجان (من رؤساء الوزارات فيما بعد ) وهم ممن اعتبروا من اليمين المحافظ الذين ارادوا القفز الى السلطة وعلى اكتاف مثقفي الحزب واتخاذ الحزب مرقاة لهم . ثم اعترته رجة اخرى بالحركة اليسارية التي قادها كامل قزانجي وهي ما اطلق عليه بالجناح التقدمي في الحزب . فتم اقصاء المتمردين . وخرج منتصرا على الاتجاه القومي العربي الذي تزعمه حسين جميل الشخصية الثالثة في الحزب . وكانت المرحلة الرابعة اخطرها خرج منتصرا ايضا بخسارة كبيرة وتضحية جسيمة اعني بأنشقاق عظيم تزعمه محمد حديد نائبه المهادن لعبد الكريم قاسم , ادى الى ختام علاقة دامت اكثر من ربع قرن .
كتبوا عن الجادرجي الكثير ومنه ما قرأته ومنه ما فاتني . وبي ما قرأت ذكريات ابنه (رفعت) صديقي عنه . كما كتب هو عن نفسه وعن تجربته وطريقه الكويل الديمقراطي لحزبه ومن هذين المصدرين وغيرهما لا اذكر الا التافه القليل جدا, فأنا امين واالحالة هذه من مداخلة هذين المصدرين في ما ساتحدث به عنه . وانا لا اتي بشيء جديد عندما اردد ما قيل حول نشأته والخط الديمقراطي الذي انتهجه بأنه لم يكسبه من مقاعد الدراسة فقد ولد قبل ان تشرق شمس القرن العشرين بنحو عام واحد او اثنين . وتعلم بالتركية قبل العربية . لكنه جاهد بأستماتة ليكتب ويعبر عن افكاره بها ونجح . الا انه لم يقف لحظة واحدة عن السعي للتمكن منها . ودرس الانكليزية وصار يقرأ بها دون مساعد . ورسا على خطه السياسي عن طريق التثقيف الذاتي . وكانت له مكتبة خاصة .
لم يوهب الجادرجي صفات “الزعامة “. لكن كان فيه ما يعوض عنها ويسد مسدها الى حد كبير . فقد توفرت فيه مؤهلات القائد ذي الرسالة . وهو في نظري رائد الديمقراطية في العراق وبلا منازع سعي وراء اشاعة المبادئ الديمقراطية في الحكم وتطلبها لذاتها غاية ونهاية . لا بأعتبارها مرحلة لا بد منها للوصول الى الاشتراكية الماركسية . وهذا هو السبب الذي جعله ينأى بنفسه عن كثير من اقطاب (جماعة الاهالي) . الا انه لم يتردد في اي وقت من التعاون مع اولئك مرحلي والى الحد الذي تفترق فيه الطرق . فلا يتردد عند ذلك من التضحية بأعز اصدقائه واقرب مساعديه . وبقي كذلك منذ العام 1932 عندما اختار هذا السبيل فأنفصل عن طبقة الساسة التقليديين الذين لوثوا الحكم وشوهوا الحياة الدستورية واغرقوا العمل السياسي في حمأة الفساد , امثال الهاشمي , والكيلاني , والايوبي والمدفعي – نبذهم الى غير رجعة وربط حياته السيسية بأولئك الشبان المثقفين الذين خرجوا لتوهم من المعاهد العلمية العالمية مشبعين بالاراء الحديثة ومشوقين الى العمل في سبيل التغيير الاجتماعي .
س: لكنه كان شريكا في حكومة انقلاب بكر صدقي – حكمت . وحكمت هو احد الساسة الذين ذكرتموهم .
لم يدخل وحده بل كان سوء تقدير على اي حال من “جمعية الاصلاح الشعبي ” المنبثقة من عصبة الاهالي , او جماعة الاهالي نسبة الى الجريدة التي كانوا يصدرونها . والجادرجي شارك في الحكومة الجديدة على هذا الاساس . الا انه لم يكن مستعدا ذهنيا او سياسيا ليسير الى اخر الشوط فكان اول المستقيلين . وتلك كانت تجربة قاسية وصدمة لم يستفق منها الى اخر عمره كما بدا من تعامله فيما بعد مع نظام قاسم والانظمة التي لحقت به . اصبح شاكا نقورا من اي عملية انقلابية يتولاها الجيش . كم كان يدري ان جماعة الاهالي . وهو واحد من اقطابها –ستقع ضحية لمغامرة بكر – حكمت ؟ وان تكون اداة للتغطية على الانقلاب ووسيلة لحسم نزاع شخصي شرس شهواني بين الكيلاني وحكمت . وبين بكر ورفاقه العسكريين الذين تألفت منهم الطبقة الحاكمة العراقية كان حكمت ينازع الكيلاني ابدأ على وزارة الداخلية وهي اخطر وزارة في العراق )_ وبها النفوذ الحقيقي وعن طريقها تتكون الثروات الخاصة . حكمت سليمان كان شبه امي يقرأ العربية بمشقة كبيرة , قالوا عنه انه لم يقرأ كتابا واحدا طول حياته ولم ينل من الدراسة حظا يزيد عن الابتدائية . مثله الاعلى اخوه غير الشقيق “الفريق محمود شوكت سليمان ” قائد الانقلاب العثماني الشهير على السلطان عبد الحميد في 1908 . وجد ضالته لانقلاب مماثل في شخص عسكري دموي فظ , صعد نجمه في عمليات مذابح جماعية للاثوريين في العام 1933 وللفلاحين من ريف الجنوب في 1935 . كان شبه وصول هذا العسكري الى سن التقاعد وقذفه الى زوايا النسيان مائلا امامه دائما . وحقده وشعوره بالحرمان مستول عليه منذ ان راح رفاقه الضباط الشريفيين يتبادلون المناصب الوزارية من غير ان يتقيدوا بسن تقاعد . وواجه الجادرجي وضعا لم يكن مستعدا له دكتاتورية عسكرية طاغية . اغتيالات سياسية انتهاكات واعتداءات على حريات الناس . اذ ذاك قدم استقالة وغادر العراق ليعود ويشهد بعدها اربعة انقلابات عسكرية متناجحة ختمت بأشدها سوءا واعظمها اثرا وتخريبا واعني به انقلاب رشيد عالي او ما عرف بحركة مايس 1941 . ولقن الجادرجي درس العمر من انقلاب بكر صدقي . وبات يتطير من اي تغيير سياسي يتولاه (العسكر) بحسب تعبيره . وبهذا التطير واجه يوم الرابع عشر من تموز .
س : بحسب علمنا كانت هناك اشارات متناقضة من الحزب الوطني الديمقراطي وقد علم فيما بعد ان رئيس الحزب كان قد اخبر مسبقا بوجود حركة عسكرية ترمي الى اطاحة النظام . وقد نبه الجادرجي بصورة خاصة الى ذلك .
جوابه اسينصح المؤتمرين بالكف ؟ ام سيعلن مسبقا عدم رضاه ؟ الجادرجي كان دائما يشعر بثقل المسؤولية امام الهزات السياسية ولكنه لا يستبقها بالحكم عليها شأنه في ذلك شأن اي سياسي ذي حنكة وخبرة . وهو يمثل حزبا يحتل مقاما رفيعا في الحياة السياسية العراقية وتقاليدها لانه كان يمثل التيار الرئيس لتفكير المثقفين ويجسد مشاعرهم . الا ان قلة شعبيته وضالة المنتسبين اليه من الوسط الجماهيري يجب ان تعتبر مؤشرا مفجعا لمدى النضوج السياسي . وليس بسبب منهاجه وأيديولوجيته الديمقراطية . سأضرب لك مثلا من واقعة في تاريخه وكيفية تصرف الجادرجي : في اوائل الستينيات وبعد اجازة الحزب نزل الجادرجي عن قيادة الحزب لنائبه محمد حديد بسبب مرض عضال اقتضاه السفر الى الخارج للمعالجة ولم يكن يتصور ان تلميذه هذا وصديقه سيلقي بحظوظ الحزب في سلة (قاسم) بوقوفه موقفا عدائيا صريحا من الحزب الشيوعي العراقي خلافا لتقاليد الحزب بأعتبار الشيوعيون عنصرا وطنيا له مكانته في الحركة الوطنية وثقله في النشاط السياسي . فلم يكن منه الا ان قطع علاجه وقرر العودة الى قيادة الحزب وقد تم له ذلك بكل سهولة نظرا لمكانته القوية التي تتيح له الظفر بمبتغاه بمجرد طلبه . وحصلت مناظرة : وضع الجادرجي الامر بهذا الشكل :
هل يستحق نظام (قاسم) مساندتنا ام لا ؟ اجاب (محمد حديد) وانصاره : نعم انه يستحق . واجاب الجادرجي: كلا انه لا يستحق . كان اسبق من غيره واشد احساسا بوطأة الحكم العسكري ولتراكم الاخطاء وهو المناضل العريق فأنتابته نوبة ضجر وتبرم نزل على اثرها عن قيادة الحزب لنائبه . الا ان هذا القائد الجديد يسلك الان سبيلا مستقلة وينتهج خطأ يدرك تمام الادراك بأنه سيغيظ ابا الحزب . ولم يكن هناك من سبيل للاستهانة برأي الجادرجي الذي كان يرى دائما ان المهمة الاساسة للحزب السياسي الفعال هو معارضة اي نظام يتنكر للمبادئ الديمقراطية ولا يسير على النهج الدستوري واريد هنا وبهذه المناسبة ان ارجع الى نص جاء في كتابي (العراق في عهد قاسم) وهو تحت يدي انه مقتبس مما كتبه الجادرجي في الاهالي في 23 من نيسان (ص 369-الجزء الاول المعرب ) “نحن في حاجة ماسة الى الحزب القادر على الشعور بأستقلاليته والنظر الى الامور بشكل موضوعي .. ان الجماهير وقبل زمن طويل ومنذ السنة الاخيرة – تفتقد الدور الذي يتحتم على الحزب الوطني الديمقراطي الاضطلاع به وهو المساهمة الفعالة في حياة البلاد السياسية على اسس ديمقراطية .. انه النهج الذي اصر عليه الحزب وعمل في سبيله منذ تأسيسه في العام 1946”.
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012