يوسف عبود جويعد
يهمني جداً متابعة حركة تطور الرواية في العالم , ومتابعتها بشكل مستمر ,من اجل ان تتم عملية التواصل في حركة السرد , وإكتشاف ما طرأ عليها من متغيرات تصب في رافد الحداثة والتجريب , وقد انهيت مطالعتي لرواية (النباتية) للروائية الكورية هان كانغ , ترجمها من الكورية الى العربية محمود عبد الغفار , وهي الرواية الحائزة على الجائزة العالمية مان بوكر لعام 2016 , و من اصدارات دار التنوير للطباعة والنشر –تونس – الطبعة الاولى 2018 .
وبالرغم من الجرأة الواضحة والمغامرة في إختيار بنية العنونة , والتي جاءت بشكل مباشر,لتكشف معالم بنية النص , الا أن الروائية عمدت الى ذلك , لكي تفتح أمام المتلقي الابواب مشرعة دون ستار , أو إخفاء , أو تمويه , أو غموض , حتى لا ينشغل بفك مغاليق طلاسم العنوان ,والتي وجدتها حالة غير ضرورية , ولا تساهم في إضفاء الفائدة المرجوة من اجل جعلها عتبة نصية نلج منها الى النص , بل أنه باب مفتوح للنص , يزيح الستار عن كل ادواته المستخدمة في صناعة الرواية , فما أن تقع عيناك عليه حتى تكتشف دون عناء او جهد او بحث بأنك سوف ترحل وعبر مسار النص , مع أحداث تتعلق بسيدة نباتية , ومع هذا الكشف الواضح والصريح والجريء لمبنى السرد , من حيث الثيمة والاحداث والشخوص ,وهنا تكون مهمة الروائية أكثر اهمية , ويتعين عليها ايضاً أن تبذل جهداً فنياً كبيراً , من اجل الارتقاء بالنص الى حالة تخرج عن توقعات الآخر , بأنه سيكون مع سيدة نباتية لا تحب اكل اللحوم , كما هو ظاهر للوهلة الاولى , بل أنها أخرجتنا من هذه التوقعات , لتدخلنا في خضم أحداث محتدمة متشعبة كبيرة زاخرة بالمفاجآت , أي أن الروائية إختارت أن يبدأ تدوين النص من ذروته وتأججه , وتوهجه , وزخم الاحداث ,دون الحاجة الى تمهيد , او إسهاب , او مقدمات ,لا طائل منها , سوى أنها زوائد تضر تماسك وقوة النص , وتخل في ايقاعه وانسيابيته , فقد وجدت زاوية النظر تلك أمر ضروري من اجل لفت انتباه المتلقي وجعله يلتصق بالنص خطوة بخطوة , دون ان يتوقف عن المتابعة , لإننا سوف نكتشف هذا الانقلاب الغريب , الذي طرأ على حياة الزوجين , بعد أن يكتشف فجأة أن زوجته تحولت الى نباتية,رغم مرور خمس سنوات على زواجهما , كانت فيه طاهية ماهرة , تجيد إعداد الاطباق الشهية من انواع اللحوم المخزونة في البراد , وكان يستمتع بمذاقها اللذيذ, وكان ذلك بسبب حلم غريب رأته في المنام ( غابةٌ مظلمةٌ ,ولا احد هناك, أوراق الاشجار مدببة حادة. وقدمي مشقوقةٌ. بالكاد تذكرت هذا المكان,لكني تائهة الآن مرعوبةٌ, أحس بالبرد, وعبر الوادي المتجمد ارى مبناً لامعاً يبدو ككوخ, وحصيرة من القش تنسدل مرتخية على الباب, لففتها الى الاعلى ودخلت.في الداخل كانت عصا طويلة من البامبو,ملطخة بدماءغزيرة تقطر منها وتتناثر قطع من اللحم . أحاول أن اتراجع الى الوراء, لكن اللحم لا نهاية له وليس هناك مخرج . الدماء تملأ فمي , وتتشربها ثيابي حتى تنفذ منها الى مسامي .
لا ادري كيف لاح مخرج أركض وأركض عبر الوادي, وفجأة تنفتح الغابة, الاشجار كثيفة الاوراق , ينيرها ضوء الربيع الاخضر. العائلات تتنزه, واطفال يمرحون, وتلك الرائحة الشهية .
اللغة تعجز عن وصف المشهد: خرير ماءالجدول,والناس يبسطون الحصر ليجلسوا,ويتناولون «الكمباب» ويشوون اللحم, بينما تتعالى اصوات الغناء والضحكات المبهجة!
وعلى الرغم من ذلك كنت مذعورة,فلا تزال الدماءتلوث ثيابي , اقبع وراءالاشجار مختبئة كي لا يراني احد, يداي ملطختان بالدم,فمي ملطخ بالدم, مالذي اكلته في ذلك الكوخ؟ دفعت الكتلة الحمراء النيئة داخل فمي,وشعرت بإنسحاقها على لثتي ,بينما يلمع سقف حلقي بدم قرمزي!)ص 16
هذا الحلم الذي راود الزوجة , كان سبباً في تغيير وجه الحياة الزوجية وإنقلابها , وفقدان لغة التفاهم بينهما , إذ أنه يتفاجأ في فجر اليوم الثاني من هذا الحلم ,أن زوجته أخرجت كل الخزين من اللحوم والمعلبات والبيض , ووضعتها في اكياس القمامة ورمتها , ولم يبق في الثلاجة سوى حبات الثوم , حاول زوجها اقناعها بالعدول , الا أن قرارها لا يقبل اي نقاش, وعندما حدثها عن حاجته وحبه لتناول اللحم , طلبت منه ان يتناول اللحم خارج البيت , وهذا التغيير الذي كان السياق الفني الاول في سقف مبنى السرد ,يدفعنا الى التساؤل مالذي سوف يحدث بعد هذا ؟ وكيف ستكون الاحداث ؟.فالروائية لم تهبط في مستوى الاحداث دون ذروتها, بل أنها ابقتها ملتهبة ساخنة شائقة ممتعة , وهذا ما ميزها وجعلها اكثر اهمية , كوننا سوف نستفاد من درس كبير ومهم في هذا النص , وهو أن مهام الروائي بقدر وعيه وفهمه وادراكه على توظيف الاحداث فنياً وبذل مزيداً من الجهد والخبرة ,لإخراجه من كينونته كمادة خامة طرية , الى حيث ما تتطلبه هذه الصنعة من مهارة ووعي ,ونعرف ايضاً ان العمل الروائي ليس نقلاً حرفياً لاحداث وقعت وينتهي الامر, بل أنها ابعد من هذا بكثير ,كون الجهد الفني الذي يقوم به صانع الرواية ,هو الذي يجعل منها عملاً فنياً يرقى الى المستوى المطلوب ,فلسنا بحاجة الى إمرأة نباتية لا تأكل اللحم , أكثر من حاجتنا الى معرفة تفاصيل تلك الحكاية من الزاوية التي تحرك فينا الاهتمام بها, وهكذا فإننا سوف ننتقل الى خطوة اكثر عمقاً في هذا النص , إذ أن الزوج سوف يستسلم لهذه الحالة ,رغم عدم موافقته لها,
(اتى الربيع ومازالت زوجتي على حالها , لم تتراجع.في كل صباح تتناول وجبة الفطور ذاتها,وما عدت ازعجها بالتعبير عن عدم رضاي) ص20
ولم يتوقف الامر على هذا , بل أنها بدأت تشعر به انه تناول اللحم خارج البيت , من خلال رائحته وكانت تنزعج لذلك , وأصابها النحول , وتغيرت ملامح جسدها , وخفت جمالها , وساءت اخلاقها ,وتتصاعد الاحداث رغم ذروتها ,وإعتماد الروائية في نقل الاحداث على تعدد الاصوات في سرد الاحداث, الزوج , الزوجة, السارد العليم, وهكذا فأن الروائية تجد من الضروري أن تزجنا بشكل اعمق نحو الاحداث, فبعد ان يرصد حركة زوجته , وينقلها لنا بشكل دقيق , يجد الزوج من الضروري إخبار أهلها قبل أن تتأزم حالتها, وعند حضورهم ,الاب , الام, إخت الزوجة الصغرى, ومحاولتهم إجبارها لتناول اللحم عنوة , ومحاولة الاب ان يدس قطعة لحم كبير في فمها تتقيأ هي , بينما تنفعل اختها الصغرى , وهي تشاهد هذا المنظر , وهي نباتية أيضاً , فتمسك السكين وتقطع وريد معصمها الايمن, ويتم إسعافها في الحال بنقلها الى احد المشافي. وتجدر الاشارة هنا الى الامانة الادبية الصادقة للمترجم ,بكونه ترك مساحة للهوامش للتعريف عن بعض التقاليد والعادات والاطعمة والمناسبات والطقوس التي تخص حياة الشعب الكوري , وشرحها للمتلقي اكتمالا للمتعة والفائدة,
وبعد هذا الطواف في دهاليز حياة تلك الزوجة النباتية , وما آلت اليها حياتها من تأزم وانغلاق , وسوداوية قاتمة , وصلت حد الابتعاد عن ممارسة الجنس مع الزوج , تبرز للاحداث شخصية جديدة هي اخت الزوجة الصغرى , والتي اتاحت لها الروائية مساحة كبيرة ومهمة في دفة الاحداث ,إذ تنشأ علاقة بينها وبين زوج الاخت الكبرى , وتتطور تلك العلاقة بشكل مبهر ويتلائم ويتفق مع السياق الفني للاحداث , مما يزيد من قوة ايقاعها وانسابيتها واحتدام الاحداث فيها , إذ يطلب الزوج من اخت الزوجة الصغرى ان تتعرى لكي يرسم على جسدها ورود واغصان خضراء في كل جسدها من صدرها وحتى اخمص قدميها, ويأتي بصديق له فيرسمه هو الآخر برسوم تكون مكملة لتلك الرسوم , ثم يطلب منهما ان يتعانقا لكي تكتمل اللوحة المرسومة , بعدها يعيش معها في ليلة حمراء , حتى يتفاجأ بحضور الزوجة , التي هاتفت مشفى الامراض العقلية ,لاحالتهما الى المصحة العقلية. وتدور الاحداث اكثر واعمق في اروقة ما حدث لهما ,لينتهي دور الزوج في عملية سرد الاحداث , ويتولى السارد العليم البقية الباقية من سير الاحداث , ومن زخم الاحداث وغزارتها وعمقها ودقتها , والتي مررت على الجزء اليسير منها , يتأكد لنا الجهد الفني المطلوب لصناعة الرواية من اجل اخراجها من قالبها الخام , الى حيث الاصول الصحيحة لتوظيفها في اطارها الفني , والذي نلمسه بشكل جلي وواضح , فقد عمدت الروائية الى إختزالها وتكثيفها وشذب الزوائد منها,لتدعونا الى الدخول لعوالم تمتزج فيها الواقعية الغرائبية وسحرها , عبر خيال خصب وافر العطاء دون حدود , مع قدرة فائقة بالتحكم والسيطرة على مجريات العملية السردية للاحداث لوصولها الى الغاية المتوخاة
رواية (النباتية) للروائية هان كانغ ,رحلة عميقة وموفقة في دروس عملية صناعة الرواية الحديثة , التي تتطلبها المرحلة الراهنة بعد ان قطعت العملية السردية في هذا الجنس المهم مرحلة كبيرة ومتطورة , وغدى التنافس فيها أمر يتطلب من الروائي استعدات تام ووعي يفوق المعتاد من اجل الخروج بعمل ناضج
هان كانغ (27 نوفمبر 1970) روائية كورية جنوبية فازت بجائزة مان بوكر الدولية في عام 2016 عن روايتها النباتية.[3]