يوسف عبود جويعد
تدور أحداث رواية (جانو أنتِ حكايتي ) للروائية ميسلون هادي , بين , أمريكا , لندن , بغداد, الفلوجة , وتلك الامكنة هي المحاور الرئيسية في إدارة دفة المبنى السردي , ومسيرة العملية الحكائية , التي إختارتها الروائية , في فن صناعتها لهذا النص , وفي أزمنة , هي الأكثر قسوة وحزناً وألماً على أبناء هذا البلد , من دخول الامريكان والمواجهة الكبيرة التي حدثت في بقاع كافة المحافظات , بالاخص مدينة الفلوجة التي كان لها الدور الكبير في المقاومة , ويمتد هذا الزمن الى دخول قوى الظلام والجهل , الدواعش , وإحتلالهم لهذه المدينة , وتلك الاحداث الساخنة هي القاعدة التي إنطلقت منها تلك الحكاية , وقد كتبت بالواقعية الإنتقادية , والتي تستعرض من خلالها حالة من الحالات التي لا يمكن عدها أو إحصائها,حيث الضرر الكبير الذي عصف بإبناء هذا البلد , وهاني الشخصية الرئيسية في هذا النص , أحد الذين تضرروا من جراء هذا الزحف نحو التخريب,والدمار والخراب , فشمل هذا الضرر كل نواحي حياته , الروحية , والمعنوية , والنفسية , والمادية , حيث تضعنا وفي مستهل هذا النص في اوج هذا التأزم , فنكتشف أن هاني في احد مشافي الولايات المتحدة الامريكية يعالج من آثار حروق سببت له تشويه في جسده , وفي وجهه الذي إختفت ملامحه, وتسير الاحداث بإنسيابية هادئة , وإنسجام وتماسك , وبإيقاع متصل متصاعد , وبلغة سردية تناغمت والسياق الفني لمبنى السرد , ومع تلك الرحلة نعيش الوقائع التي سببت له تلك الحروق , فقد حدث أن السيارة التي كان يقودها أبيه قد توقفت في سيطرة للتفتيش من قبل الامريكان , وهي تقله مع امه , وقد ترجل منها والده , وهو يرتدي معطف سميك , وبلحية كثيفة , الامر الذي تسبب في إثارة ريب افراد الجيش الامريكي , ففتحوا النار عليه , وعلى السيارة , مما تسبب بوفاة إمه وإحتراق المركبة التي كان يجلس في أحد مقاعدها , وقد نجا الاب بإعجوبة بعد إكتشافهم بأنه غير مسلح , وأنه ليس إرهابياً , وهذا الامر جعل الامريكان يعتذرون , وينقلون هاني لأحد مشافي امريكا . لغرض العلاج وتجميل وجهه, وهكذا تضع امامنا الروائية بداية موفقة لأحداث كبيرة وواسعة ,ومتشعبة بإنتقالات بين تلك الامكنة والازمنة , ومن خلال الفصول القصيرة المعنوة بوحدة موضوع الفصل , الا أنه جزء متسلسل ومتصل مع الفصل الذي يليه , مشكلاً الثيمة المهمة , الا وهو الوطن والإنسان , الذي أحاق به ضرر كبير , إثر هذه التقلبات التي عصفت به , من دورات الاحداث فيه , وهو الخاسر الوحيد , والحصيلة هي الكثير من الانكسارات النفسية , والاحباطات الروحية , والتضحية في الارواح . وتجدرالإشارة هنا , أن مبنى هذا النص لأحداث واقعية , كما أن الروائية إستطاعت أن تنقل لنا المكان بصدق ووضوح ,سواءاً كان ذلك في الولايات المتحدة الامريكية , شوارعها , مقاهيها , مشفاها, اسواقها , اهم مطاعمها , وانواع الاكلات المشهورة , وكذلك الحال في لندن ,وفي الفلوجة وبغداد, دون حاجتها الى أن تتخيل ذلك , بل أنه نقل سردي واقعي صادق . الامر الذي اضفى مع سحر اللغة السردية وضوح رائق , ثم ننتقل الى بنية العنونة , والتي إختارتها بكل دقة وتقنية عالية , كونها حالة إنتقالية اخرى تضاف الى مسار مبنى السرد , وصفحة من الصفحات التي تساهم في تماسك الاحداث وإتصالها , إذ إننا سوف نكتشف دخول مفاجئ ليطغي على السرد ويلتحم بظهور (جانو) جنان , والتي هي الأخرى قد أحاق بها ضرر يضاف الى الآلاف من ابناء هذا البلد , بإستشهاد خطيبها الطيار , وكون هاني فضل أن يعيش في بغداد بعد عودته من العلاج , وعدم الذهاب للفلوجة التي كانت نار ملتهبة , وسكن قرب المقبرة الملكية , واستطاع أن يفتح محل للطباعة والاستنساخ , وتسهيل مهمة من يريد الهجرة , والهروب من هذا البلد , حيث أن جانو كانت واحدة من هؤلاء الذين يرومون الذهاب الى لندن لإكمال دراستها , لنيل شهادة الدكتوراه , وهكذا فإن هاني قرر أن تكون جانوا حكايته , وبهذا أرتبط مبنى العنونة , مع المبنى السردي للنص , ولم يكن دخول جانو مجرداً كشخصية جديدة تضاف الى بقية الشخصيات في هذا النص , بل هو دخول آ خر لاحداث وثيمات وشخصيات ووقائع جديدة إنضمت الى بناء هذا النص ,والتصقت والتحمت لتكوّن مسار آخر يسير وفق تلك الانسيابية الحكائية , وهكذا فإنها تعد انتقالة جديدة نحو تقدم هذا المسار , وإضافة الهبت الاحداث وجعلتها متشعبة , فبين حياة هاني وتأزماته النفسية , وبين حزن جانو وبقاءها على ذكرها لخطيبها الطيار ,نعيش مع إضمامة جديدة من الحكايات , حيث تنشأ علاقة حب بينها وبين هاني الذي ساعدها في الحصول على المنحة الدراسية للالتحاق بعمتها في لندن, وتلك العمة حصلت على مال كثير من شركة لصناعة العطور , كون تلك الشركة تسببت بعد شرائها لاحد منتجاتها الى التهاب بشرة وجهها , فعوضتها تلك الشركة بهذا المال , وننتقل الى اجواء لندن , وشوارعها , ومقاهيها , ومتاحفها , ومطاعمها, واحتفالاتها , بعد ان تترك مفتاح البيت لدى هاني لكي يطل عليه يومياً ويسقي الزرع , ( حط بنا الرّحال أخيراً في مطاعم دبنهامر التي تحبها عمتي كثيراً , لأنها الوحيدة التي تقدم طبق الفش آند جبس الشهير … السمك طري خفيف محاط بقشرة خارجية مقرمشة مع البطاطا المقشرة المحمصة مع الزبدة بحيث تصبح لها رائحة لذيذة في الأنف وطعم ألذ في الفم .. ولمحبة هذا المكان سبب آخر أهم من الطعام بكثير .. ففي ذلك المتجر الفخم تم اللقاء قبل شهور بين عمتي وخبيرة العطور موظفة متجر تاتون في دبنهامر . كانت سيدة مشهورة ومضرب المثل بالاناقة والجمال , وبسببها حصلت عمتي على ربع مليون جنيه استرليني كتعويض عن شرائها كريم معطر قالت لها الموظفة إنه غير معطر , بالتالي التهبت بشرتها واحمرت بشكل مرعب ..) ص 197
وهكذا تمت ربط البنية العلائقية بين المسارين , في خضم حياة بلد ملتهب في القتل والانفجارات , وبين بلدان تعيش هانئة هادئة , تتمتع بكامل حريتها , وتمارس طقوسها بأمان , وتداخلت معها علاقة الحب بينهما , حيث أن جانو طلبت من هاني أن يقوم بطلاء البيت , وهذه المهمة منحت لروائية فرصة طيبة وحرية اكبر , ومساحة واسعة , لتمارس دورها كروائية مهنية حرفية , حيث إستطاعت أن تقوم بمعالجات فنية حديثة , تنتمي الى الرواية الجديدة , عندما جعلت هاني , يعيش وسط اجواء عائلة جانو بشكل متخيل وهو يقوم بعملية الطلاء , وهي حالة من حالات التطور في الوعي السردي ( من خلف ستائرها نادت هديل على أختها جنان كي تنزل , وجانوهاربة من الجميع الى غرفتها ..أغلقت الباب على نفسها يومين هماالخميس والجمعة , بعد أن عادت من البنك الذي يعمل آدم مديراً له .كانت قد توجهت لغرفة المدير لصرف الشيك بسبب إنقطاع التيار الكهربائي , دون أن تعلم بأنها ستجد أمامها آ دم زميلها القديم في دراسة الماجستير .. كان يحبها عندما كانت هي تحب ذكرى الطيارالشهيد , وبدلاً من صرف الشيك لها , صرفت لها دقائق الانتظار صور الماضي البعيد والقريب)ص 262
وهكذا فإن الروائية إستطاعت من خلال هذه التخيلات التي أطلقها هاني ,وخلق شخصية جديدة , هي آ دم , وهو من وحي الخيال , الامر الذي جعل هذا البيت الخالي الموحش , ينبض بالحياة , وتتحرك فيه الشخصيات في كل مداخله , وهنا اود الاشارة الى عدم ضرورة تكرار الإيميل الذي عثر عليه هاني في خانة السبام ثلاثه مرات نقلاً حرفياً مستنسخاً , دون أن نجد له تفسير مقنع , إذ ان صاحب هذا الايميل لم يرد على هاني رغم ارسال رسالة له , وبقيت احداثه غامضة .
بعدها نعيش التداعيات التي حدثت أثناء عودة جانو الى بغداد , إذ تنفجر شاحنة قرب السيطرة , وكانت اخرى معدة للانفجار الا أن رجال السيطرة إستطاعوا إرداء قائدة الشاحنة المفخخة قتيلاً قبل أن يقوم بتفجيرها , الامر الذي ازم جانو وجعلها تعيش حالة رعب حد الموت .
( جلست جانو على الأرجوحة , وهي سعيدة وممتنة له , بدأ هاني في دفع الأرجوحة , وهي تضحك بفرح لم تعرفه منذ أن استشهد خطيبها علي . توقفت الأرجوحة , وهي لا تزال تجلس عليها , فجلس هاني على الارض أمامها, تحت قدميها , وإقترب منها ببطء وقبّلها على اصابع قدميها , هذا أمر جميل ومختلف جعل جانو تشعر بهزة لذيذة في قلبها .. أغمضت عينيها تماماً مع قبلته ! وعاشت حياتها كلها بعد ذلك وهي مغمضة العينين ) ص 341 نهاية الرواية
وتلك النهاية التي تفتح ابواباً للتأملات , وتجعل المتلقي بعد ان يعيش احداثها متأثراً بها , أمر اضاف هالة من الضوء الى مسار الاحداث
رواية ( جانو أنتِ حكايتي ) للروائية ميسلون هادي , تؤكد بأن الرواية العراقية الجديدة بخير , ولازالت تتقدم بكل ثقة نحو التوهج السردي المطلوب , ونمتلك رواة على معرفة ووعي تام بدورهم في مجال السرد الحديث .
من اصدرات دار الحكمة – لندن – 2017