عرض : يوسف الشايب
أشار «يهودا شنهاف شهرباني» في كتابه «اليهود العرب: قراءة ما بعد كولونيالية في القومية والديانة والإثنية»، والصادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، وترجمه ياسين السيد عن الإنكليزية، إلى أن المختلف في كتابه الذي يأتي بعد خمس سنوات من البحث في الأرشيف المتصل بالتاريخ الاجتماعي لليهود من البلاد العربية في ضوء القومية الصهيونية، أنه وظف مصطلح «اليهود العرب» وحاد عن اصطلاح «اليهود المزراحيين» أو «اليهود الشرقيين» بمعناهما الحرفي، وأنه افترض أن دراسة اليهود العرب ينبغي أن تجد نقطة بدايتها في مطلع العقد الرابع من القرن الماضي، وذلك «عندما فتحت الحركة الصهيونية أعينها على اليهود العرب باعتبارهم مخزوناً للهجرة اليهودية»، وليس عند وصولهم إلى إسرائيل في حقبة الخمسينيات من القرن المنصرم.
كما أنه رأى أن كتابه «اليهود العرب» استعرض منظوراً جديداً لفهم العلاقات الدقيقة بين اليهود العرب واللاجئين الفلسطينيين «الذين نحوا عن ديارهم في العام 1948»، وهي علاقة عادة ما تُجرى التعمية عليها، أو يجري إقصاؤها في الدراسات التي تستند إلى التأريخ الصهيوني ونظرية المعرفة الصهيونية، ومع ذلك «فلا يروي هذا الكتاب مجرد قصة جديدة حول العلاقات القائمة بين الفئات الاجتماعية أو تاريخ بناء هذه العلاقات، وإنما يوظف التاريخ أيضاً للنظر تحت سطح الصهيونية نفسها».
يتناول هذا الكتاب اللقاء المعقد الذي ساده الصراع وعمه التضارب والتناقض بين اليهود الذي ينحدرون في أصولهم من الدول العربية، وبين القومية الصهيونية، الدولة اليهودية، فقد خلقت هذه الصراعات أثراً هائلاً على نشأة المؤلف أوردها في قصة شخصية، حيث كان يتخذ مجلساً في أحد مقاهي تل أبيب، ليقترب منه شخص مسن فجأة ويسأله إذا ما كان ابن «طيب الذكر إلياهو شهرباني» … «لم يسبق لي أن رأيته في حياتي قبل اليوم، كان رجلاً وسيماً ويقارب عمره السبعين، وتحدث إليّ بلهجة عراقية ثقيلة. وجال في خاطري أن هذا هو ما كان والدي ليبدو عليه لو كان على قيد الحياة».
«وتابع الرجل كلامه .. اسمي أفنير يارون، وقد جندت أباك في جهاز الاستخبارات في خمسينيات القرن الماضي .. كانت الموائد في المقهى قريبة من بعضها بعضاً، وتولد لدي شعور بأن كل شخص فيه كان يستمع إلى المحادثة التي دارت بيني وبين هذا الرجل، الذي قال إن لديه الدليل على ذلك، كما لو كان يذيع سراً، وأن بإمكانه أن يظهر لي لو رغبت. شعرت بالراحة بعدما غادر الرجل، وراقبته وهو يمشي تحت المظلة الكبيرة أمام المقهى، إلى أن عبر الشارع وغاب في الأفق»، ليتحدث المؤلف عن مغلف أرسل إليه إلى ذات المقهى يحمل صوراً ليهود عرب بينهم والده بلباس كاكي، والصور بالأبيض والأسود.
وتحدث شهرباني عن «التحول من جزء من العالم العربي إلى جزء من الكيان الجمعي اليهودي غير العربي ظاهراً وجلياً حتى في أدق التفاصيل التي تشكل الخلفية التي أنحدر منها. فجدي يوسيف كان تاجراً من تجار بغداد، وكان يسافر في ربوع الأقاليم التي كانت تخضع للهيمنة الاستعمارية، وكان يبيع التمور والسمك والبيض، وكان يستقل القطار مرة واحدة على الأقل كل ثلاثة أشهر للتنقل بين بغداد وفلسطين. وقد اشترى جدي في إحدى الرحلات التي سافر فيها إلى فلسطين قطعة أرض في مدينة بتاح تكفا، خارج حدود تل أبيب. وفي العام 1936 غادرت العائلة العراق، وكانت تنوي الاستيطان في الأرض المذكورة هناك، ولكنها عادت أدراجها إلى بغداد بعد تسعة أشهر. ولم يبق في فلسطين سوى شلومو، الشقيق الأكبر لأبي.. واصل جدي رحلاته التجارية خلال الحرب العالمية الثانية أيضاً، وفي إحدى رحلاته العام 1942 قرر أبي الانضمام لشقيقه شلومو والبقاء في فلسطين. قيل لي إن جدي عارض ذلك، ولكن والدي أصر على رأيه وفرضه على والده. كان يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً حينئذ، وقد وجد عملاً في قطاع البناء بفلسطين».
وواصل شهرباني حكايته الشخصية التي انطلق منها لتقديم رؤية ما بعد حداثية يقوض فيها الرواية الصهيونية الرسمية من خلال قصة اليهود العرب .. «انتقل والدي عندما بلغ سبعة وعشرين عاماً مع مجموعة من أصدقائه مواليد العراق إلى كيبوتس بئيري، على أطلال قرية نحبير العربية، وفي هذه السنة حضر آفشالوم موئيلي وهو ضابط تجنيد إلى الكيبوتس وجند المجموعة في جهاز الاستخبارات الإسرائيلية. وفي الواقع ليس هناك ما يثير الدهشة، فقد كانت هذه المجموعة جزءاً من مخزون لا ينضب من الشباب الطموحين، الذين يدينون بالولاء للدولة، ويتحدثون العربية بطلاقة ويبدون كالعرب في مظهرهم.
واستحضر شهرباني قصة إيلي كوهين، وهو يسرد تطور الحكاية وصولاً إليه، معترفاً «لم يشارك جميع اليهود العرب في نزع السمة العربية عن أنفسهم كما فعلت أنا. فقد كانت جدتي لأمي فرحة، التي هزني الحزن على وفاتها العام 2005 عن عمر ناهز الثالثة والتسعين عاماً، تملك الجرأة التي مكنتها من التعامل مع تلك العلاقة التي يشوبها الخطر، وكانت تستخدم التصنيف اليهودي العربي على نحو يتسم بقدر أكبر من الصراحة. وفسرت لي جدتي بأن إيلي كوهين كان يسمى أمين، وأن اسم أمه سعيدة، وأنه كان يهوديا مصرياً وأنا كنت يهودياً عراقياً. وكانت جدتي تحب أن تضفي صفة مثالية على الماضي اليهودي في العراق حتى بعد العام 1967».
وتحت عنوان فرعي «التاريخ يبدأ من البيت»، يكشف الكتاب كيف أن المحاولات الصهيونية الرامية إلى بناء هوية إسرائيلية لليهود العرب من خلال قمعهم هويتهم العربية إلى التمسك أكثر فأكثر بهذه الهوية، وإلى تحديد (من الحدّة) مسألة التمييز الطائفي في إسرائيل، التي تحيل بدورها إلى بذور التناقض في الصهيونية، فكراً وممارسة.
وينقسم الكتاب إلى خمسة فصول، هي إضافة إلى الحواشي: «اكتشاف اليهود العرب»، و»اللقاء في عيدان: الكولونيالية، والنزعة المركزية الأوروبية، والاستشراق اليهودي»، و»كيف أصبح اليهود العرب متدينين وصهيونيين؟»، و»ما هي القواسم المشتركة بين اليهود العرب والفلسطينيين؟: تبادل السكان، حق العودة، وسياسة جبر الضرر»، وأخيراً «اليهود العرب والذاكرة التاريخية الصهيونية».