حسن السلمان
أن تؤمن بفكرة كبيرة تتخطى حدود العقل وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالقلب والعواطف، ذلك يعني أن ما آمنت به سيشكل طريقة في الحياة لايمكن أن تحيد عنها مهما واجهت من تحديات وظروف عصيبة. ستنظر لما آمنت به كما لو أنه روح وجسد في وحدة واحدة لاتتجزأ.. هذا هو بالضبط ماحدث لأبي حين أصبح شيوعياً وهو لما يزل شاباً وتعرض كما تعرض بقية الرفاق، إلى الملاحقة والاعتقال والتعذيب، ليصبح شيوعياً حتى العظم.
كان أبي مغرماً بكل ماهو سوﭬييتي إلى درجة الوله، بل إلى درجة الانخطاف والذوبان بكل مايمت بصلة للأحمر.. فقد صادف أن أُقيم في الستينيات معرض للصناعات السوﭬييتية في بغداد، ليصبح أبي من زواره الدائميين، ويشتري لنا طباخاً سوﭬييتياً، سعره دينار واحد.. كان طباخاً ثقيلاً بثلاث عيون.
بفرح منقطع النظير، حمل الطباخ وسارع إلى تشغيله وسط نظرات أمي الملهوفة لرؤية النار السوﭬييتية العظيمة التي ستطهو عليها بعد أن ملّت من نار ( البريمز )..
بعد أن فرغ من تنصيبه الذي تطلب جهداً كبيراً، شغلّه وكل نظراتنا مصوبة إلى ناره.. ولكن ياللخيبة.. كانت ناراً حمراء على صفراء مصحوبة بدخان كثيف..
شعر أبي بالإحراج وأعاد تنصيه وتشغيله من جديد ولم تتحول النار الحمراء الصفراء، المصحوبة بالدخان إلى لهب أزرق.. نظر إلينا، ونظر إلى الطباخ، وقال بلهجة الواثق من نفسه تماماً: أبداً. ليست العلة في الطباخ. العلة في الوقود. إنه وقود رديء. لايمكن أن يصنع الاتحاد السوﭬييتي طباخاً رديئاً.
بقي الطباخ ينفث دخاناً سخّم القدور والجدران والسقوف والستائر والملابس، وأبي يصر بشكل غريب على أن العلة في الوقود وليست في الطباخ، ولكنه في الأخير تنازل ورضخ للأمر الواقع، لتعود أمي إلى ( بريمزها ) وناره ذات اللهب الأزرق.. كما لو أنه يودع شيئاً عزيزاً، رماه أبي فوق السطح وثمة دموع تتلامع في عينيه..
ذات يوم، اشترى راديواً سوﭬييتياً يسمى ( أبو الـﭽنل )، وكان كتلة ثقيلة من الحديد والألمنيوم يخلو من أية لمسة جمالية.. رغم ثقله، كان أبي يضعه على أذنه ليستمع إلى المحطات الشيوعية كإذاعة عدن وبرلين بسبب ضوضاء التشويش.
سقط جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوﭭييتي، وضَعُف سمع أبي، وبقي الراديو مركوناً على رف صغير، مثل جثة رجل غريب لم يجد أحداً ليدفنه…
عندما وافت المنية أبي، عثرنا في جيب سترته على عشرة روبلات تحمل صورة لينين، لانعلم من أين جاء بها.
*cccp الحروف الأولى للاتحاد السوفيتي باللغة الانكليزية