الجفاف المسكوت عنه

كما هو الأمر غالباً في مضاربنا المنحوسة، اكتشف القوم فجأة وجود سد مرعب اسمه (اليسو) سيشفط كميات هائلة من مياه نهر دجلة، ملحقاً أضرارا فادحة وقاتلة بمصير هذا النهر على التضاريس العراقية المنكوبة بالجفاف أصلاً. عندما أطلقت الجارة تركيا صفارة الشروع بخزن المياه في جوف هذا السد الهائل (في الأول من الشهر الجاري) انطلقت موجات النحيب والعويل وأقيمت سرادق العزاء على روح هذا النهر والذي اقترنت تسمية هذا الوطن القديم به وبرفيقه الفرات، بلاد ما بين النهرين (الميزوبوتاميا)، وكأن الأمر حدث فجأة ومن دون مقدمات، في الوقت الذي تشير الوثائق والحقائق التاريخية الى أن فكرة هذا السد، والدراسات الأولية حوله قد وضعت في بداية الخمسينيات من القرن النصرم، أما حجر الأساس فقد وضع العام 2006 على أن يكتمل بناؤه العام 2014، إلا أنه تأخر الى شهر شباط من السنة الحالية (2018) حيث تم افتتاحه ليبدأ الخزن فيه في الأول من شهر حزيران الحالي.
ما نود الحديث عنه وبعيدا عن بازار العنتريات والاستعراضات الفارغة والتهديدات المضحكة؛ يتعلق بجفاف آخر، أشد مرارة وفتكاً من مخاطر الجفاف البيئي وسياسات دول الجوار المائية. حديثنا عن الجفاف الذي شرع الأبواب أمام كل أنواع التصحر في تضاريس ما زالت تعرف بـ “بلاد النهرين” ألا وهو جفاف العقل والقيم. جفاف تشير اليه كل الأحداث التي رسمت مصائرنا وأوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم من عجز وفساد وفشل وإحباط في شتى مجالات الحياة المادية والمعنوية. جفاف يمكن تلمسه لا في حطام الأجيال التي سحقتها حروب ومغامرات العصابات التي فرضت سلطتها المطلقة على تفصيلات حياة سكان هذا البلد المنكوب وحسب، بل نجد تجلياتها في الأجيال الجديدة المثقلة بهموم واهتمامات انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد. جفاف في هذا الحطام الذي يطلق عليه بـ “الانتلجينسيا” أي شريحة المثقفين والعاملين في مجال الفكر والثقافة والقيم، ممن قدموا أسوأ الأمثلة والسيرة والمواقف في حياتهم العملية والنظرية. وهذا غيض من فيض الجفاف الذي هتك بأهم خصيصة معروفة عن العراقيين على مدى الأزمان والدهور؛ ألا وهي الفضول المعرفي والعقل النقدي الذي أشار له الجاحظ قبل أكثر من ألف عام.
لقد تمكنت قوى التخلف والاستبداد من تجفيف هذا الرأسمال والخصيصة التي لا تقدر بثمن لدى العراقيين، ومن سوء حظهم أن يتلقف زمام أمورهم بعد زوال حكم ذلك الذي انتشل مذعوراً من جحره الاخير، قوى وقبائل وجماعات وعقائد تنتسب غالبيتها لمعسكرات ما قبل الدولة الحديثة، حيث انطلقت برفقتهم عمليات استثمار واسعة في حقول التشرذم والغباء والهرولات الجمعية. دول الجوار والعالم المحيط بنا، يدركون جيدا ما نمر به من حالة عجز وتشرذم وضياع، ومن عدم امتلاكنا لأي موقف موحد تجاه كل ما يتربص بنا من مخاطر وتحديات، ومن فشلنا في امتلاك دولة وقانون ومؤسسات، حيث تمتلك كل جماعة وعصابة متنفذة دبلوماسييها وجيوشها ومخابراتها و..، لذلك لا يمكن توقع مواقف دولية تكون أكثر حرصاً منا على مصالحنا الوطنية العليا والتي فرطنا بها من دون وجع من عقل أو ضمير. المعجزة الوحيدة القادرة على انتشالنا من اخطبوط التصحر المحيط بكل شؤون حياتنا حاضرا ومستقبلاً؛ تكمن بالبحث عن السبل والوسائل التي تعيد الحيوية لأساس استقرار وازدهار الأمم أي؛ العقول والقيم…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة