علوان السلمان
السرد الروائي..بناء تركيبي..معماري..وتشكيل هندسي يحققه المنتج بوعي ذاتي ومجتمعي يتماهى فيه النفسي ـ السايكولوجي (الذاتي) و الاجتماعي ـ الواقعي(الموضوعي).. عبر جماع من خطابات تكوينية يتشك كل خطاب من بنية واسلوب لتحقيق وظيفة الانتفاع بنبشه للخزانة الفكرية للمستهلك(المتلقي) باستنطاقه لما خلف الالفاظ والمشاهد السردية من جهة وامتاعية جمالية من جهة اخرى.
وبتحليل عوالم النص الروائي (امبراطورية الثعابين) التي تنتمي الى الواقعية النقدية التي تحيل لغتها الى عوالم الموجودات (الانسان/الافكار/البنية الزمانية/البنية المكانية.) بكل تجلياتها وانعكاساتها وتداخلاتها..والتي اسهمت دار تموز في نشرها وانتشارها/2018.. كونها تقوم على تقنيات فنية وبنائية باعتماد الذات الآخر بؤرة سردية تتجمع حولها خيوط السرد من جهة ومن جهة اخرى اتخاذها السرد السيري الذي يعتمد تحولات الذات من الداخل وردود افعالها تجاه الواقع والوجود الحياتي فتكشف عن كنه الوجود الانساني الذي يتشكل بفعل تأثير المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على وعي الفرد واستجابته لها باعتباره جوهر الوجود الكوني.. ابتداء من العنوان العلامة السيميائية الدالة والايقونة الكاشفة عن المتن النصي..اضافة الى النص الاهدائي الموازي لساجدة بطلته( الى ..ساجدة البركان..زارتني في الحلم..نفضت ثيابها بين يدي..وهاجرت عارية نحو الشمس) ص5..
(بدأ هاجس الاعتراف يأخذني الى ما يريد وانا لا املك من عدة المقاومة غير الاستسلام له..لماذا لا أقر امام الجميع بأن رغبتي وراء الاعتراف كانت السبب في كل ذلك؟ وهي رغبة ماجنة نمت وترعرعت بداخلي عند دخولي الى عالم المجون..ماذا يقول زبائني الذين اعتادوا على اراقة رجولتهم على جسدي بأن اسمي الحقيقي ليس رولا ولا فيفان ولا همسات او سوزان او غيرها من الاسماء المستعارة التي كانت تخرج من شفاه ملتوية خدرها السكر وأطاح بها الشبق الذي كان يهيمن على احاسيسهم…معلقة انا بين صنارة الرغبة في الاعتراف وبين مصيدة الخوف من الفضيحة..بين الاختباء وراء العيب المغشوش داخل المستنقع وبين الخروج الى عالم مشمس أتوضأ بسناه واستحم بشعاعه..) ص9 ـ ص10..
فالسارد يقتنص التعابير المشحونة دلاليا بالايحاءات لتبئير المشاهد التي نسج عوالمها الراوي السارد(ساجدة البركان) الناقلة لاحداث وسلوكيات مجتمعية منهارة نفسيا واخلاقيا..اضافة الى سعيه في خطابه التمسك بالبطل الاشكالي مع تقطيع سردي متواصل..ومفارقة زمنية شاهدة بين زمني الخطاب والحكاية..مع اعتماد الشخصية المحورية وتقانتي الاسترجاع والاستباق بلغة تتميز بقدرتها الايحائية عبر التكثيف والايجاز مما اضفى على النص شاعرية مستفزة لذاكرة المستهلك(المتلقي)..فضلا عن نزوع الخطاب السردي الى ان يكون خطابا استقطابيا احادي الصوت..
(منذ اللحظة التي تحركت فيها الطائرة وانا مسكونة بالخوف..لا اعرف نوعه بالضبط..أحسست بالامتعاض في بداية الامر بعدها تراكمت السحب على نفسي..كنت أحبس نظراتي عن وجوه المسافرين ويزداد خوفي كلما التقت عيناي بعيني احد..وكان الدكتور سميع السامون يجلس جنبي وقد حشر جسده ببذلة ذات لون احمر قان وقميص اصفر وربطة عنق حمراء مخططة باللون الاسود..القيت نظرة سريعة عليه فوجدت نظراته متوجة بالانتصار..كان رصينا في جلسته..ربما هو الآخر يعاني من الخوف رغم الهدوء الظاهري الذي هو فيه..وعندما حلقت الطائرة عاليا طيّر لي ابتسامة سريعة واسند راسه الى الخلف واغمض عينيه وبقيت وحدي اعاني من هواجس بدأت تأخذ بخناقي..كانت المرة الاولى التي اعاتب فيها جنانا بمرارة فلولا انسياقي وراء رغباتها ما كنت في المأزق الذي انا فيه الآن..لم يكن خوفا بمعنى الخوف الشائع..هو مزيج من خوف وصدمة وانتباه ويقظة..)ص75..
فالنص يكشف عن صراع الذات المأزومة وتداعياتها نفسيا وسلوكيا نتيجة الاخر (الذي هو الجحيم) على حد تعبير جان بول سارتر.. اذ ان ازمتها داخلية قابعة في قاع الروح..وهي تتشكل من عالمين مختلفين ومؤطرين بوحدة موضوعية:اولهما ظاهر ينحصر في صورة ساجدة المتفوقة دراسيا والمحافظة مجتمعيا..وثانيهما مضمرا..ساجدة التي تمارس البغاء سرا مستغلة انوثتها لتحقيق مآربها المادية وكشف المستور والمسكوت عنه بتوظيف القناع الاسمي(رولا/فيفيان/سوزان..) وكلهن ساجدة الذات التي تشكل الهامش والمتن مجتمعيا وهي لا تعرف السكون والاستقرار بعد ان وضعتها (جنان) في الشباك..وجرتها للاحتيال على الواقع وموجوداته وممارسة الدعارة في بيوت المتنفذين اقتصاديا وسياسيا(طارق/سليم/سميع السامون)والذين تتغير اسماءهم بين الفينة والفينة وفقا لمصالحهم المادية كما في(طارق العاشق=طارق الاغا)و(سليم= راشد الازعر) و(سميع السامون= الاستاذ غالب)..من اجل الثأر لكرامتها بخط تصاعدي ينتهي بصوفيتها بعد التعميد بماء البحر..وهذا يجرنا الى عالم رابعة العدوية والتصوف..فضلا عن توظيف اليؤرة المكانية(المغلقة والمفتوحة) لامبراطورية الثعابين التي تعرف كيف تنهش اجساد الاناث مقابل اوراق نقدية خضراء..فهناك مؤسسة(الزعفران الخيرية) و(فندق برج الحرير) التي تجمع الثعابين التي يكشف عنها الراوي السارد(ساجدة)بطلة الرواية..
(الاشخاص الذين يصعدون المنصة لالقاء كلماتهم بمناسبة احتفال المؤسسة هم انفسهم الذين تعرفت عليهم من قبل باسماء اخرى..) ..ادرت وجهي الى امرأة متصابية كانت تجلس الى جواري..سألتها بلهفة:من هذا المتكلم؟
ـ ابتسمت ساخرة وهي تهمس لي:انه الدكتور سميع السامون.. الشخصية اللامعة المعروفة.. أدرت وجهي نحو المنصة وصوت المتصابية يلاحقني: وهو المؤسس والممول لهذا المشروع الاخلاقي والخيري العريق..)ص49..
(أدير وجهي نحو المتصابية..اسألها بلهفة:من هذا المتكلم؟
ـ انه الدكتور راشد الازعر امين سر المؤسسة..ادرت وجهي نحو المنصة وصوت المتصابية يلاحقني..هو عقل المؤسسة وضميرها..يشهد القاصي والداني بنبله وتقواه..) ص50..
(يطل وجه اكرم المطري من جديد ليقدم لنا الاستاذ الفاضل طارق الاغا..طارت نظراتي لتصيد الاستاذ الاغا فاصطادت بدلا عنه طارق العاشق.وهو يخرج كلمته من جيبه..وعندما تحدث أسرعت الى المراة العجوز المتصابية اسألها بلهفة:من هذا المتكلم؟ابتسمت ساخرة وهي تهمس لي:انه الاستاذ طارق الاغا الذراع اليمنى للدكتور سميع السامون..سليل الحسب والنسب..ادرت وجهي نحو المنصة وصوت المتصابية يلاحقني:الجميع يحلف برأسه..فهو مثال الاستقامة والشرف..
يااااااااه..يبدو ان الدنيا فقدت طعمها ولونها وشكلها واصبحت اكثر عهرا من عهر الدكتور السامون..) ص52..
فالسرد يتأرجح ما بين السيرة والحكي لتعزيز موقف (السارد الراوي)الذي يشكل محور السرد(ساجدة)..بتوظيف السارد للجزئيات من اليومي المأزوم بشخوصه ويسجلها باسلوبية ادهاشية وحبكة سردية اهتمت بتسلسل الاحداث وتفجيرها نفسيا وهي تعري الواقع الاجتماعي والاخلاقي المنافق بكل مكوناته..
وبذلك قدم السارد نصا يقوم على حبكة درامية ووحدة موضوعية متنامية الاحداث تصاعديا..مع اكتظاظه بالانصهارات المعقدة للانسان الذي يتحول طوال سيرته الحياتية متجاوزا محدداته وكل ما يعيقه..فيكشف عن ظهور مجازي لاسئلة الذات..فتميز بعمق رؤيته المستجلية للابعاد الانسانية بتوظيف ضميرالمتكلم الذي منح الراوي السارد امكانية البوح بتداعيات الماضي عبر تقانة التذكر والاسترجاع لنسج حكايته بشكل يتماهى و النفسي ـ السلوكي (السايكولوجي) و الاجتماعي ـ الواقعي (السوسيولوجي)..بمصاحبة الشخصية وليس بمحاكاتها..