الحيتان باقية وتتمدد

لم تشفع التقنيات الحديثة (أجهزة العد والفرز الإلكتروني) التي تفوق كلفتها ثمن بناء 300 مدرسة حديثة؛ للدورة التشريعية الرابعة كي تحمل معها شيئا من الأمل بالتغيير الجاد والتحسن على طريق ممارسة لعبة الديمقراطية وصناديق الاقتراع وحسب، بل أثارت هذه المرة الكثير من ردود الأفعال السلبية، ولم يستثن من ذلك المنظمات الأممية المتخصصة في هذا المجال. إن إصرار الكتل الكبيرة و(حيتانها) على تقاسم ما يعرف بـ (المفوضية المستقلة للانتخابات) هو من وضع الأساس والمنطلق لطاعون الفساد الذي بسط هيمنته الواسعة على تفصيلات حياتنا كأفراد وجماعات. ومن خلال تتبع حال وأحوال هذه المفوضية، نجدها في حال تدهور وانحطاط مع كل دورة انتخابية، إذ تعد المفوضية الأولى (العام 2005) هي الأفضل من ناحية المهنية والاستقلالية لنصل الى المفوضية الحالية المتحاصصة بشكل كامل بين حيتان حقبة الفتح الديمقراطي المبين. إن واقع حال هذه المفوضية يطيح بكل المساحيق والخطابات الاستعراضية حول الإصلاح والتغيير ومكافحة الفساد، وداخل كواليسها يتعرف المتابع الحصيف على الفرق بين الادعاءات والواقع، وعلى الكثير من الهوان وهشاشة المشهد الراهن، وعلل عجزنا عن إجراء أية تحولات جدية في حياة العراقيين السياسية والتشريعية والاقتصادية والقيمية. لقد برهنت التجربة وبما لا يقبل الشك؛ على أن هيمنة تلك الكتل على بوابة ما يفترض أنها (مرحلة للعدالة الانتقالية صوب الديمقراطية والدولة الحديثة) قد ألحق أضرارا كارثية بذلك المشروع الحضاري، عندما نقلت تلك الكتل مفاهيمها المتخلفة وضيق أفقها وملاكاتها، لتلك المؤسسة التي أريد لها عملاً ونشاطاً وقيمياً مغايرة تماماً لما حل بها من كوارث.
البعض يرى أن الجولة الأخيرة من الانتخابات قد أزاحت غير القليل من الوجوه المزمنة في البرلمان، ويعد ذلك إنجازا لا يستهان به للدورة الحالية، من دون الالتفات الى أن الدورات السابقة كانت قد حققت مثل تلك “الإنجازات” على صعيد الواجهات والأتباع والذيول، لكنها أبقت للحيتان هيبتها ونفوذها، وهذا ما حصل تماماً في هذه الجولة والتي استعنا فيها بتقنيات العد والفرز الإلكتروني لإنجاز أمرنا الديمقراطي. إن النتائج التي تمخضت عنها صناديق العام 2018، تؤكد حقيقة عجزنا وفشلنا كعراقيين على صناعة تحولات فعلية لحاضرنا ومستقبلنا، ويبدو أننا بحاجة الى مشوار إضافي من الهزائم والكوارث والخيبات، كي نتمكن من انتشال مشحوفنا المشترك من قبضة حيتان وكتل ما قبل الدولة الحديثة. لقد أهدرنا برفقة هذه الطبقة السياسية الكثير من الوقت والفرص والطاقات، ووصلنا بهمة خطاباتها الشعبوية والديماغوجية المتخلفة الى حافات الحرب الأهلية، كل هذا وما زالت ماكنة الانتخابات وصناديقها تعيد لنا إنتاج هذه الطبقة وحيتانها، رغم أنف الكوارث التي حلت وتلك التي تنتظر..!
إن صعود وجوه جديدة الى مقاعد مجلس النواب الجديد، لا يشكل دائماً مؤشراً على التقدم والتغيير نحو الأفضل، وهذا ما كشفت عنه التجارب السابقة، حيث يرفد “الجديد” المنظومة القديمة وثوابتها وحيتانها بما تحتاجه من مستلزمات وشروط للتمدد والبقاء. ومن خلال المعطيات والأرقام، ونوع الكتل التي تصدرت النتائج النهائية التي أعلنت عنها المفوضية، يمكننا رسم ملامح وهموم واهتمامات المرحلة المقبلة، والتي أتاحت نوعا من تبادل المواقع بينها، كي نسير معها الى فصل جديد من مسلسل إعاقة بعضها للبعض الآخر …
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة