يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 23
حوارات مع جرجيس فتح الله
عقد (جمال) اجتماعا يوم الاحد 10 مارس (اذار) حضره كل من (اكرم الحوراني) و (عبد الحميد السراج) و(مصطفى حمدون) و(طعمه) وانا وتكلم (جمال) فيه عن اهمية المعركة الدائرة بين العراق و ج ع م وذكر انه لا بد لاحدهما ان تقضي على الاخرى . وهو لذلك يرى ان تنقل المعركة الى ارض العراق نفسها بغرض ارهاق (قاسم) وان يتم ذلك عن طريق تشجيع بعض القبائل على شن غارات لاشاعة الفوضى في ارض العراق ويأمل ايضا ان يدفع هذا الموقف بعض ضباط الجيش العراقي الى القيام بثورة اخرى ضد( قاسم ) او ان يندفع احد الاشخاص من العراقيين المتحمسين ويقضي عليه . وكان (جمال) يرى ضرورة توزيع السلاح وبسرعة على قبائل شمر لاشتباكهم القائم مع حكومة بغداد والشيوعيين حتى يضمن بذلك استمرار المعركة . وذكر (مصطفى حمدون) انه قام بتوزيع الف ومائتي بندقية على افراد تلك القبيلة عندما كان في تل كوجك .
واجتمعنا مساء يوم الاربعاء 18 اذار للاستماع الى نتيجة الدراسة التي قام بها (مصطفى حمدون) و(السراج) حول الخطة المعدة ضد العراق . وكان قد حضر قبل اجتماعنا , مشايخ قبائل منطقة الجزيرة بسورية لمقابلة جمال ) ولم يستمر لقاؤهم به اكثر من ربع ساعة وكان عددهم تسعة . وعرض (السراج ومصطفى حمدون) علينا وقائع الاتصال الذي تم بينهما وبين مشايخ الجزيرة والخطوات اللازم اتخاذها لتنفيذ خطة اثارة الشغب داخل الاراضي العراقية والتي حددت بمنطقتين : لواء الموصل في الشمال ولواء الدليم في الجنوب . واقترح انشاء قيادة مركزية وقيادة لكل من المنطقتين والعمل على تدريب افراد العشائر على استخدام الاسلحة الصغيرة المختلفة تحت شعار تدريبهم على المقاومة الشعبية ” ا .ه .
ويتفق اكرم الحوراني الذي كان وقتذاك نائبا اخر لرئيس (ج ع م ) عموما في مذكراته التي نشرتها له جردة القدس قبل سنة واحدة من تاريخه وارجو ان تلحظ هنا طبيعة العملة التي تسكها دار ضرب (عبد الناصر) . فهو يستعين كما ترى بشيوخ العشائر لاحداث الاضطراب في العراق . في حين يطلق وسائل اعلامه بهجوم كاسح لا يرحم على النظام العشائري الاقطاعي الرجعي في المملكة السعودية . وربما وجد عباد (عبد الناصر) في هذا حذقا وعبقرية والهاما وبانيا.
مما يذكره (البغدادي) من ذيول الاجراءات الناصرية , ان رئيسه اصدر في 12 من اذار (مارس) قرارا بطرد(خالد محيي الدين) من رئاسة تحرير جريدة المساء “لاعتقاده بانه لم يلتزم بتوجيهاته الخاصة الى وسائل اعلامنا التي ظلت تردد بأن الثوار ما زالوا يقاتلون برغم اندحارهم وهروبهم ” و (خالد محيي الدين)هو واحد من الاحد عشر الذين قامو بأنقلاب يوليو وهو حي . وقد قرأت اسمه بين من حضر في الاجتماع القاهري احياء لذكرى وفاة عبد الناصر الذي سمي بالكونفراس .
واحتفظت لعبد الناصر بخطب يؤكد فيها اصراره على ابقاء عنوان “الجمهورية العربية المتحدة” بعد الانفصال اعترافه به , برغم احتجاج كثير من المصريين على ذلك واستنكارهم ومطالبتهم بالحاح بأعادة اسم مصر التاريخي العربي اصلا وهو لا ابا لك دليل على مقدار ازدراء هذا السياسي بالواقع , وبقائه مصرا على رفضه الاعتراف بأية حكومة سورية حين يقول حرفيا :
“تعلمون ان رأيي هو ان تلك الوحدة كانت عملية شاقة كان من رايي هو ان الاعداد لها يجب ان تكون متدرجا على عدد من السنين . لكن كان علي ان اخضع للارادة الشعبية السورية … في هذه اللحظة اشعر انه ليس من الحتمية ان تبقى سورية جزء من الجمهورية العربية المتحدة . بل ان سوريا يجب ان تبقى سورية . الوحدة القومية في سورية هي تثبيت للوحدة العربية وان الجمهورية العربية المتحدة ستستمر !!
الا ان مؤامراته على الحكومات السورية تعاقبت بانتظام غريب : ثماني مؤامرات بالاحصاء السوري الرسمي على مدار ثمانية اعوام . ومرة ضاق صدر حكومة سورية بها بعد ما سالت دماء حلب . ونقلت جريدة نيويورك تايمز في الخامس من نيسان ابريل (1962) تعقيب اذاعة دمشق الحزين “ليس هناك ما ينفع غلة عبد الناصر الا الدم المراق “. وكتبت جريدة الحياة في الثامن منه نصف تشييع جثث الضباط القتلى في حلب “سارت تظاهرة ضخمة خلال شوارع دمشق وهي تهتف : لا اله الا الله , ناصر عدو الله “. اقول ضاق صدر تلك الحكومة واضطرت ازاء ضغط الرأي العام السوري الى رفع شكوى ضد ج ع م لمجلس الجامعة العربية ” لتقدير الموقف الناجم عن اقوال واعمال استفزازية صادرة من حكام القاهرة ضد سورية مما يشكل عدوانا صريحا على سيادة سورية وكرامة شعبها “. وعرض الوفد السوري سبع وثائق على المجلس المنعقد في 22 اب تدين عبد الناصر بالقيام بالتحريض على الثورة واشاعة الفوضى وانفاق الاموال في التامر على الكيان السوري وابرز المندوب السوري وثائق تتضمن اخراج 1100 ضابط و(3000) ضابط صف من الخدمة . ونقل (500) ضابط سوري الى القاهرة لم يكن لديهم ما يعملون غير قراءة الجرائد في دوائرهم وتعيين اكثر من (2300) ضابط مصري مكانهم , يتقاضى اصغر ضابط فيهم رتبة (800) ليرة سورية من خزينتها في حين يقل راتبه عن نصف هذا بالعملة المصرية وهم في مصر . وشكا في ان مجموعة الضباط المصريين الذين اعتدوا على اعراض الطالبات السوريات لم يقدموا الى مجلس عسكري بعد انتهاء التحقيق وانما اكتفى (عبد الناصر ) بنقلهم الى مصر . وعرضت وثائق تفصيلية تدين ادارته بامتصاص ثروة البلاد . وايصالها الى حافة الانهيار الاقتصادي بتطبيق القوانين الاشتراكية .
ابناء هذا الجيل او الجيل الذي سبقه لا يعرفون بطبيعة الحال شيئا عن تلك الحرب الاهلية المدمرة التي اشعلها عبد الناصر في لبنان وكاد يقضي فيها على معالم الديمقراطية موقضا فيها غول الفتنة الدينية . التي داءت بالحرب الاهلية فيما بعد والتي دعت الحكومة اللبنانية الى طلب انزال قوات البحرية الاميركية في تموز 1958.
لا يدري ابناء هذا الجيل والذي سبقه شيئا عن دور عبد الناصر المركزي في انقلاب اليمن العسكري وعن الحرب الاهلية الشرسة التي نجم عنها استخدام الغاز السام لاول مرة من قبل الجيش الذي ارسله عبد الناصر تلك الحرب التي كلفت – بحسب تقارير (دانا ادم شمدت) وهو عين مؤلف كتاب رحلة الى رجال شجعان –خمسة عشر الف مصري بين قتيل وجرح ومفقود وهذا بين تقارير موقعية اخرى اخرها الذي نشر بتاريخ 15 من كانون الاول 1962. ذكر فيه ان عدد القوات التي زج بها عبد الناصر بعد ثلاثين يوما من الانقلاب بلغ (13000) الا انه ضاعفها مرات . فبلغت (70000) عندما بدت عملية اخلائهم ولا يدري جيلنا وسلفه بكتاب (هيورث دون ) الوثائقي عن دور (عبد الناصر) في هذا البلد العربي الذي صدر في العام 1961 بعنوان شهادة حول اليمين بالتفاصيل التي تبعث الرعدة في البدن عن مئات الرؤوس المقطوعة المتدلية من فتت الشجر كالثمر الداني القطوف وعن زمر اثر زمر من الجنود المصريين الاسرى الذين يطلقهم رجال القبائل بعد تشويه جسدي فظيع وقطع اوصال .
وكل هذا , وما جرى في سورية . الى جانب الحصيلة الدموية من مغامرة الشواف والتآمر على اغتيال الحبيب بورقيبة والملك حسين , والحرب الاهلية في لبنان , كل هذا لا يوازي الحماقة الكبرى التي اقدم عليها بأيقاد نار حرب العام 1967 . تلك الحرب التي تم خلالها تصفية 419 طائرة مصرية وهي كل قوته الجوية . وتمزيق جيشه شر ممزق وخسارته اكثر من ثلاثة اضعاف اسرائيل مساحة , وهلاك اكثر من خمسة الاف من جنوده جوعا وعطشا في صحراء سيناء وكل هذا يهون ايضا بخسارة الجزء الشرقي من اورشليم القدس وجميع الضفة الغربية , ليخلق للفلسطينيين وللعرب وللعالم الاسلامي هذه المشكلة العظمى التي نراها اليوم . والتي يريد الفلسطينيون تصحيحها بالحجارة والدماء وبمعجزة من السماء .
جاؤوا البارزاني , وعبد الناصر يقرع طبول الحرب وطلبوا منه مساهمة في تلك الحرب , فنصحهم باجتنابها , وهو بعيد عن ميادينها وكان صادق النية والنصيحة . وما من شك انهم حسبوها اعتذارا وحسن تخلص لانهم كانوا واثقين من قدرتهم على القاء اسرائيل في البحر كما توعد اله الحرب ووعد , والجميع يعرف هذا وهو ليس بسر .
اني الان اشارك الدهشة كل من عانى وتابع اخطاء هذا الرجل ليس فحسب بسبب فكرة تكريمه بل لاختيار اسوأ توقيت لتنفيذ تلك الفكرة . ويخيل لي انهم لم يقدروا التأثير المعكوس لهذا التحدي العاطفي لكل من اصابته عواقب سياسات هذا الدكتاتور , وفي رأيي ان مصر نفسها حكومة وشعبا قد تكون في مقدمة من شعر بهذا التحدي وتكره التذكير به .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012