حميد عقبي
ينفث دخان سيجارته إلى الأعلى محاولاً سدَّ ثقب في جناح غيمة، يراها، يتأملها، مع كل سيجارة ينفث كتلة هوائية ثقيلة من صدره، في الهجيع الأخير من الليل إلى ما قبل تباشير الفجر، يلتحف الصمت، يستمع لوشوشة الظلمة، قليلة هي الأصوات والأضواء المحيطة حوله، حاول مرات أن يمسك بكفه على وهج العتمة أو قطعة من السكون.
يعود إلى مقعده، الأشياء لا تبدو في مكانها، فنجان قهوته الصباحية على الطاولة إلى يمينه، أوراق لحكاية لم تنته على مقربة منه، وجه عشيقة غائبة لم تترك صورة تذكارية لكنه يكاد يملأ الفضاء، صوت قطرات تعوَّدها لكنها تربكه أحيانا، قطرات ربما مصدرها حنفية المطبخ، وربما ذلك المطر يصب من الثقوب السماوية.
يمم وجهه ناحية باب الخروج، حركة ما تحدث خلف الباب، يقشعرُ جسده، يقف شعر ساعديه، مع الساعة الثالثة صباحاً، يتضخم الصمت، بمقدوره سماع خطوات عقارب الساعة الحائطية، ها هو عقرب الثواني يسير بخطوات مسموعة ليزحزح عقرب الدقائق، تشترك العقارب الثلاثة لميلاد لحظة استثنائية، كأن الزمن يتوقف هنا، هنالك خلف الباب أشياء ما تحدث لا يعرفها، يعجز خياله عن رسم المشهد، حالة يفقد فيها القدرة على الفعل، يهم في كل مرة أن ينظر من ثقب الباب، يتجمد، بعد دقيقة واحدة وثانية على الأقل يستطيع أن ينهض، يُسرع لفتح الباب يكون الفراغ في انتظاره.
الثالثة والنصف صباحاّ، صوت ضربات قادمة من مسكن جارته، تلك السيدة المسنة تعيش وحيدة مع قطتها، تصحو في هذا الوقت ..هذا الضجيج لا يقلقه، يسمع مواء القطة وسعلة السيدة، ينظر إلى أعلى بجهة المطبخ، ثقب هنالك قُرب مروحة التهوية، يتحول إلى شاشة عرض، يُركز وجهة نظره لهذه الزاوية، يحضر المشهد بتفاصيله الدقيقة، السيدة تصعد على كرسي لتمسك بطعام قطتها، تضحك مفتخرة، تداعبها، وتخبرها أنها ما زالت قادرة أن تفعل أشياء كثيرة ثم تحكي بعض ذكرياتها وأنها كانت فتاة جميلة ومغرية، تحكي عن مغامراتها الجنسية وبعض أسفارها، عن حلمها بأن تكون راقصة مشهورة… تُنهي المشهد برقصة صغيرة، يداهمها التعب، تأخذ حبات الدواء، تشرب القليل من الماء ثم تغط في نعسة خفيفة، كذلك قطتها تتفاعل معها، تأكل وجبتها ثم يسدل الهدوء ستارة الصمت.
الساعة الرابعة وأربع دقائق، يأخذ شهيقاً، يبتلع بعض الأوكسجين، ينظر إلى ما حوله، بعض الأشياء تبدو كأنها تحولت من مكانها، يعيد يكتشف المكان، تلك اللوحة الزيتية الصغيرة لملعقة خشبية وجدها معلقة ولم يحركها منذ قدومه للسكن هنا، أثاث هذه الصالة بسيط، هو لا يكترث ولم يفكر بشراء أشياء جديدة، مكتبة مثقلة بكتب وأشرطة فيديو، أمامه جهاز الحاسوب يستخدمه لمشاهدة أفلام وكتابة هذيانه، يدون أيضاً على الورق، يفكر، يتأمل، يبحر في ذكريات قديمة.
يسند رأسه إلى الخلف، ينظر إلى جهة اليمين، هذا ثقب آخر في الجدار الذي يفصله عن جارته الشابة إيميلي، يسمع اسمها عندما تتحدث بالهاتف، لم يسبق أن صادفها في الشارع أو الحافلة، يحدث أحياناً عند دخوله أو خروجه أن يراها من الخلف تفتح بابها لتدخل مسكنها، هذه الفتاة العشرينية تلبس فستاناً أسودَ قصيراً، شعرها الطويل الأحمر يكاد يغطي وجهها المثلث، عندما يصادفها يُلقي التحية، يظن أنه سمع ردها الخافت لكنه لم يتشجع للتعرف إليها، تبدو غامضة ومنعزلة، هو أيضا يحب العزلة ويحدث أن تمر به أيام لا يخرج وقد لا يتحدث مع أحد.
الساعة السادسة الآن، تستيقظ إيميلي، تسارع بسماع أغانيها الصاخبة، يتخيلها بملابسها الداخلية أو عاريةً تماماً، ترقص متفاعلة مع هذا النوع من الموسيقى، أصبح يهز رأسه ويحفظ بعض المقاطع مع تكرار سماعه لها من هذا الثقب.
تمنى أن يكون رساماً ليرسم هذه الشخصيات التي يسمعها، أصبح يعرف تفاصيل كثيرة عنها، تفصله عنهم جدران لكن هذه الثقوب هدمت كل الحواجز فأصبح يتعايش معهم، ربما هم أيضاً يعرفونه ويسمعونه ويعايشونه.
إيميلي حالة استثنائية يظهر أنها على علاقة غير جيدة مع عائلتها، كما أنها فارقت رفيقها الذي يحاول العودة إليها، ترفض أن تغفر له خيانته لها، تلعن كل الرجال وتصفهم بالخونة الأرذال، متمردة وقوية، أو هكذا يراها أصدقاؤها وصديقاتها لكنها تحمل قلباً رهيفاً، يحدث أن تبكي، أن تصرخ، يسمع همساتها وقد تصحو مفزوعة بسبب كابوس مفزع، تغني ثم ترقص عارية وكذلك تعزف آلة الكمان حيث إنها تنتج مقطوعات رقيقة هادئة، ثم يحدث أن تتحول هذه النعومة إلى صخبٍ غاضبٍ.
قرر أن يخوض مغامرة ويكتب عن إيميلي والسيدة المسنَّة وقطتها المدللة، لديه مادة خصبة… بفضل هذه الثقوب والجدران الهشة لا توجد فواصل معيقة، فكر أن يثقب عدة ثقوب أخرى لكنه اقتنع أن لا حاجة إليها، لا يريد التلصص ولم يسع إليه، أحاديثهم وأفعالهم تصل إليه، يسمعها ثم يترجمها خياله مشاهد صورية متحركة وحية، يمكنه شم رائحة عطر إيميلي وروائح المأكولات والمشروبات وغيرها، يتحرك من مكانه، يبحث عن دفتر جديد ليبدأ كتابة قصة جديدة بعيداً عن حديث ذكرياته مع عشيقته، ربما هي ستحضر بالقصة لكنه مصمم ألا يعطيها البطولة.
يبدأ بالكتابة مسمياً قصته «ثقوب»، انهمك في عمله، أحسّ بالتعب، يسند رأسه إلى الخلف مستسلما لغفوة هادئة، فجأة يسمع فوضى أجبرته على النهوض، صعود وهبوط وحركة نشطة غير معتادة على السلالم، يدق جرس الباب، ينهض ليفتح الباب، يسارع، إنها إيميلي بجمالها الساحر، وجهها المشرق، شعرها الأحمر الحنائي، لم يدر ما يفعل.
تبتسم له وتحييه…
إيميلي: صباح الخير، أعرفك بنفسي اسمي إيميلي سأكون جارتك من اليوم، سأنتقل لهذه الشقة رقم 13 واعذرني، فقط أحتاج أن تساعد السيدة جاكلين، هي أيضاً تنتقل اليوم للشقة المجاورة لنا، سنكون الثلاثة جيراناً.
يقف كالمصعوق، ينظر لمجموعة يحملون أثاث وحقائب إيميلي والسيدة المسنَّة ثم يدخلونها.
هنا تظهر السيدة جاكلين تحتضن قطتها وتداعبها، تتقدم لتحيته معرّفة بنفسها.
السيدة: مرحبا أنت جارنا، أعرفك بنفسي: اسمي جاكلين وهذه صديقتي وابنتي وحبيبتي اسمها نو، وهذه جارتنا الجميلة إيميلي تعرفت إليها قبل قليل.. يا لهذه المصادفة الجميلة ..أتمنى ألا أزعجك، فقط أحتاج بعض المساعدة، اعذرني (تبتسم)، أنا اجتماعية مرحة وربما ثرثارة.
تقترب منه إيميلي، تكاد كتفها تلامس كتفه، يشم رائحة عطرها الذي أصبح يعشقه، يدرك أنه لا يحلم، يتلعثم قليلاً، يبتسم، يحاول بسرعه فهم ما يحدث.