رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 21
حوارات مع جرجيس فتح الله

واعتبارا من ايار 1959 , بدأت هذه الجريدة “خه بات ” التي سمح بأصدارها في التاسع من نيسان بالكتابة عن المحنة الكبرى التي يعيشها الوطنيون الكرد في (ج ع م) – القطر السوري . وما تلقاه منظماتهم في ظل دكتاتورية عبد الناصر . ورحنا ننشر تباعا انباء تلك الاعتقالات الجماعية التي طالت مئات من هؤلاء . واساليب التعذيب التي كانت تماسها بهم اجهزة المخابرات التي اخترعها نظام عبد الناصر بغرض التخلص من خصومه وزج معارضيه في معسكرات بالألوف . وتحدثنا في الصحيفة عن عبور اعداد منهم الحدود الى العراق هربا من الملاحقة والاعتقال .
اغلق عبد الناصر الاذاعة الكوردية من القاهرة بطلب من حكومة بغداد في العام 1964 . ولا اريد الدخول في تفاصيل وظروف قيامها والغرض من قيامها برغم ما فيه من طرافة وانتهازية ثمينة . لكن يكفيني القول بأنها لم تكن قط وفي اي وقت ذات منحى سياسي توجيهي ولا استطيع الوقوف عند هذا الحد وانا غير معتاد انصاف الحقائق . وانا في سبيل تعرية المواقف.
قال الكاتب الصحفي دانا ادم شمدت (راجع الصحيفة 401 من الطبعة الثانية لترجمتي كتابه : رحلة الى رجال شجعان ).
“ومع ان عبد الناصر امتنع رسميا عن مساندة القضية الكوردية , الا انه عبر عن عدم موافقته المطلق للحرب التي يشنها البعث على الكورد , كما اظهر للزائرين من قادة الكورد كل مجاملة وعطف “.
ويذكر المتتبعون ان عبد الناصر لم يرد مطلقا بالايجاب على اقتراح عرضه جلال الطالباني في 1963 ومجمله ان يكون هناك اقليم كوردي خاص بين اقاليم الدولة الاتحادية الجديدة التي اقترحت في حينه . كما يذكر المتتبعون ايضا سورة الغضب التي استولت على البارزاني بسبب رحيل الطالباني الى القاهرة لبحث القضية الكوردية معه قائلا ان القضية الكوردية لا تحل هناك بل في العراق .
من التصريحات السالفة وجدنا كل هم عبد الناصر هو الاحتفاظ بالقوى العربية لمواجهة إسرائيل وان توجيهها ضد الكورد هو وجه من وجوه تبدد تلك القوى لا غير بدلا من توجيهها ضد العدو الاكبر اسرائيل والامبريالية . فضلا عن ان ذلك كان يتفق والخشية من استغلال القضية الكوردية من قبل الاتحاد السوفياتي مما يؤدي الى اضعاف موقفه من هذه الدولة .
في النصف الاول من شهر كانون الاول 1963 بعد استتباب الامر لعبد السلام محمد عارف ومواصلة القتال اسرع (صبحي عبد الحميد) الى القاهرة وطلب من (عبد الناصر ) بحضور (المشير عامر) قوات مصرية في بغداد . “ولو كانت بحجم لواء او لواءين لانها سوف تحقق اغراضا متعددة ز منها تأمين الوضع في بغداد وتؤثر على الاوضاع السياسية في دمشق , وتلين من عناد الكورد وتقنعهم بضرورة الوصول الى الحل السلمي “.
ووافق عبد الناصر وفعل وارسل القطعتين “شريطة عدم اشتراكهما في قتال الكورد”. وما من شك انه لم يكن غبيا ليدري انه حرر بذلك قوات مماثلة عراقية لترسل الى ميدان القتال في كوردستان . الا ان صاحب كتاب ” كنت سفيرا في العراق ” –ربما لاضفاء مسحة من المرح على النبأ – يضيف قائلا ان عبد الناصر اصر على ان تدفع اجور (اي مرتبات الوحدات) من الخزينة المصرية ! وفي العام 1965 قدم مصر وفدا للاتحاد الاشتراكي القومي من العراق لبحث القضية الكوردية مع نظيره وفد للاتحاد الاشتراكي القومي المصري وما دار فيه من نقاش لا يشرف بطبيعة الحال لا عبد الناصر ولا نظامه وثد اثبت طرفا منه في نهاية كتاب “الحرب الكوردية وانشقاق 1964”. ولا اريد الاسترسال اكثر في هذا الباب فلدي ما اقوله ولم افرغ بعد.
س: لكن فلتسمحوا لي بالمقاطعة هنا . فمن الذي سردته هنا ارى انه لا يخلو من التفاتة ايجابية وكلمات طيبة قالها الرئيس المصري بحق الكورد ولا سيما حين يدور الحديث حول حقوقهم .
اجل. لكن بشرط ان تجرد عن المصلحة الذاتية . والدوافع السياسية والمتغيرات الفجائية في المواقف ولو نحن اتخذنا هذا المقياس للتكريم لكان علينا ان نضع عبد الناصر في اخر القائمة . هناك كثير من الزعماء السياسيين ورؤساء الدول سيعتبون علينا . وربما سترسم على اوجههم ابتسامة الحيرة والدهشة. وفي مقدمتهم لا شك خلفاء الراحل الرئيس حافظ الاسد الذي فتح ابواب بلاده للمناضلين الكورد واطلق لهم حرية النشاط والعمل في احرج الاوقات وفي الوقت التي كانت القضية الوطنية الكوردية تجتاز مرحلة دقيقة للغاية . وما اظن (القذافي) سيسكت عنا لو قدمنا (عبد الناصر) عليه في هذا الباب واين صراحته من الاعتراف جهارا بحق الكورد في تأسيس دولة مستقلة من اقوال الرئيس المصري التي اوردناها ؟ والمجال هنا ليس مجال مقارنات الا اني ارغب في التذكير بالمقالة التي كتبها الدكتور عبد الرحمن عزام اول امين عام للجامعة العربي . في العام 1943 وقد زاحمت انتفاضة السيد البارزاني الوطنية وقتذاك انباء الهجوم الالماني في غربي مصر . وتجد المقال في عدد تشرين الاول من مجلة الهلال وقد اثبت اجزاء منه في كتابي “مبحثان على هامش ثورة الشيخ عبيد الله النهري “.
“ان اماني العراق وامانيه يجب ان لا تتوجه الى التوسع على حساب الكورد” . والحري بالامة العربية بعد تحقيق الوحدة ان تترك للكورد حرية الاختيار بين الانضمام اليها او تفضيل الاستقلال عليها . فأن اختاروا استقلالا فعلينا احترام رغبتهم . ولا يكون هذا سببا للخلاف والشنان “.
س:هذا على الصعيد الكوردي وكما ذكرت فهناك الوجه الاخر وهو مانعته بالفضاء الرحيب للرأي العام في البلاد الناطقة بالعربية . وانعكاس الفكرة عليه .
لا اعتقد ان اصحاب فكرة تكريم الرئيس المصري قد حسبوا حساب ما ستخلفه هذه البادرة من اثار واي انطباع سيأخذون عن كيفية اتخاذ القرارات في هذا الجزء من الوطن العراقي . ولكل قطر ذكريات من سياسات عبد الناصر في نفوس اهله لا يريدها ان تستيقظ . وفي مقدمتها اهل العراق ونحن جزء منه ولا اذكر سورية واليمن وتونس والاردن ولبنان فقد كان لكل من هذه الاقطار نصيب وفي كل بلد ندوب وجراح من اثار مشاريعه .
س: قد يفيد قراءنا التفصيل في هذا وقد ذكرتم اهل العراق في المقدمة ولعل في ذهنكم دعوة الوحدة التي انطلقت من القاهرة فأوقعت الخلل في بنية الشعب العراقي ايام(قاسم) واحدثت الفتنة العمياء التي جزأته ؟
كلا بالضبط فهذا يقتضيني اعادة كتابة سيرة كاملة لا تتفق واذواق عبادها والمشيدين بعبقرية صاحبها . الا اني سأقصر حديثي على واقعة واحدة كان للحزب الديمقراطي الكوردستاني دوره المجلي في احباطها واقصد بها محاولة العقيد الشواف الانقلابية وذيولها المأساوية . وسيكون زميلي هنا السيد ” عبد للطيف البغدادي” نائب رئيس (ج ع م) وقد واطبها من البداية الى النهاية . وسانقل ما اخترته من اقواله حرفيا عن المسودات التي حملتها معي كما نوهت في صدر حديثي .
وعلي ان اترك الميدان له . ان امهد بشيء عن شخصية عبد الناصر . اقول برز هذا بتفوق الفكري بين اقرانه صانعي ثورة يوليو بروزا واضحا ليؤمن له القيادة المطلقة دون منافس حتى اخر دقيقة من حياته وهو ما لم يتفق لاي زعيم من زعماء الشرق الادنى . ولا سيما دهاؤه وحنكته في مقارعة الخصوم وتحطيمهم بوسائل اعلامه واجهزة مخابراته وامنه القمعية التي استحدثها واصبحت الماركة المسجلة لكل الحكام المستبدين في البلاد الناطقة بالعربية . وكان بارعا حقا في قلب الهزيمة الى نصر والفشل الى نجاح وحاول بعظهم تقييده بها دون نجاح ورغم كل ما سببت خططه ومشاريعه وسياسته من الام للبشرية ومن الارواح التي ازهقت في سبيلها , بل ورغم كل ما اصيبت به من احباط . وقد ساقه اطلابه زعامة العالم العربي الى واد بذور الديمقراطية حيثما وطئت قدمه وفتح الاف السجون والمعتقلات لمعارضيه . وفي زمنه بلغ فن التعذيب ذروته . هذه الحقائق تصرخ وتزعق في وجه كل من يحاول طمسها او التقليل من شئنها . في العام 1956 بلغت سمعته الاوج بنجاح هائل دوي في مشارق الارض ومغاربها – بخروجه منصورا فيما عرف بالعدوان الثلاثي او حرب القتال وهو نجاح لم يكن له فيه يد و بل كان لان الحظ ابتسم له فيه ربما للمرة الاخيرة – فقد عزت مصر دولتان عظيمتان ودولة صغيرة ذات جيش حسن التدريب والتجهيز مهيئا سيكولوجيا للحرب . ومصر اذ ذاك لا تملك قوة عسكرية مهيأة معنويا وعدة لخوض غمار حرب وبجيش لا يتوقع له الصمود قط امام حلف كهذا . لكن بفض اقوى دولتين في العالم : الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة قطبي الحرب الباردة جرى انقاذ عبد الناصر بل حقق نصره.

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة