كنت أعتقد مثل غيري من المغرمين بالدراسات التاريخية أن الثقافة تزدهر في مجتمع مزدهر، وتنمو في مجتمع نام، ومن العسير على بلدان غارقة في التخلف، ضاربة في الجهل أن تنتج أدباً أو فناً يرقيان إلى مرتبة العالمية. وكنت أجد في ظاهرة الخواء الفكري لدى بعض شعوب آسيا وإفريقيا ما يدعم هذه النظرية.
ويبدو مثل هذا التفسير مريحاً للغاية، ولا يحتاج صاحبه إلى عناء كثير. فهناك إجابة جاهزة على الدوام لسؤال من هذا النوع. وهي أن التقدم ينتج ثقافة متقدمة والتخلف يأتي بثقافة مريضة. ولأننا نجنح نحو السهولة فقد قبلنا هذا التفسير، وآمنا بهذه الفرضية. ولست أجد في الأمر سوءً بل على العكس من ذلك أرى نفعاً. فإذا ما نجحنا في خلق اقتصاد قوي، فلا شئ يحول دون أن نحرز الكثير من المجد في الغناء والرقص والموسيقى والمسرح على الأقل!
غير أن هناك حقائق على الأرض لا تؤيد هذا الرأي. فالشعر الجاهلي مثلاً كان أفضل من شعر العباسيين، مع الفارق الكبير بين البيئتين. والرواية الروسية كانت أعظم من نظيرتها في عهد الاتحاد السوفيتي، والأخير أكثر تقدماً بمراحل من سابقه. بل إن هناك من يرى في النقش على جدران الكهوف دليلاً على رقي الفن في العصور الحجرية الأولى، وهكذا.
وقد وجدت أن الدكتور علي الراعي وهو ناقد معروف يعتقد أن الحرية هي الشرط الوحيد لتطور الثقافة. ويرى أن المسرح بالذات ذا لسان طويل، ولا بد أن يتمتع بقدر وافر من الأمان ليكون قادراً على نقد الظواهر الاجتماعية والسياسية بجرأة.
وقد يكون الرجل محقاً في ما ذهب إليه، ولكني لا أعلم لماذا قفز المسرح العراقي في ظروف لم يكن فيها طول اللسان مرغوباً فيه بالمرة!
في رأيي أن هناك محفزات تقوم بإعطاء إشارة البدء في كل عمل ثقافي. وهي المسؤولة عن زخم الحركة، ونجاح الأسلوب.
ففي أثينا مثلاً كان تبني عبادة الإله ديونيسوس على يد القائد اليوناني بستراتوس الذي تولى السلطة عام 561 ق.م ، إيذاناً بانطلاق حركة مسرحية كبرى لم تشهد لها المدينة مثيلاً. وكان المعبد الشهير مقراً للعروض التي تقدم في موسمين. وقد وصف هذا الإله بأنه معبود الطبقات الفقيرة من المجتمع الأثيني!
وكانت ولادة بوشكن (1799 – 1837) في روسيا مقدمة لظهور جيل من الشعراء والروائيين الكبار في تلك البلاد، انتهى بقيام الثورة عام 1917. وقيل أن سنوات نفيه القليلة في جنوب البلاد أتاحت له التعرف على نتاجات الشعراء الانكليز مثل اللورد بايرون وسواه.
كان توينبي يؤمن أن التاريخ يصنعه الأبطال أو القادة أو المصلحون أو العباقرة في لحظة ما منه. وهؤلاء يخرجون دون سالف إنذار، أو سابق موعد. وبانتظار هؤلاء فإن من الصعب التنبؤ بما سيؤول إليه المشهد الثقافي، أو ما ستنتهي إليه الحياة العقلية في بلادنا اليوم.
محمد زكي ابراهيم
اللسان الطويل
التعليقات مغلقة