كان محمد في بداية العشرينيات من عمره عندما ترك دراسته الجامعية بسبب سياسات النظام المباد الإجرامية والدكتاتورية، ليلتحق بصفوف المعارضة المتواجدة في المناطق الحدودية لكردستان مع إيران، وكما حصل مع غير القليل من رفاقه على هذا الطريق، اضطر الى الدخول الى إيران، حيث تم وضعه في أحد الأماكن المخصصة لهذا النوع من اللاجئين، وهو لا يختلف عن السجن أو المعتقل، وبعد أن يأس من إمكانية حصوله على حريته بشكل رسمي، قرر عدم الرجوع الى مكان الاحتجاز بعد انقضاء إجازته، على أمل أن ينتهي ذلك الكابوس الذي عصف بوطنه وأحلام شعبه المشروعة في الحرية والعيش الكريم، غير أن الأقدار كانت قد رسمت مساراً آخر مثقلاً بالضيم والوجع والآلام، حيث استمرت غربة محمد لما يقارب الـ 35 عاماً، قضاها في ظل شروط حياة قاسية وغير طبيعية، كونه كان منفياً داخل المنفى نفسه، بسبب عدم امتلاكه للوثائق الرسمية التي تجيز له الإقامة على الأراضي الإيرانية، وهكذا عصفت الأقدار بأجمل مراحل عمر ذلك الشاب المفعم بحب وطنه والقيم الإنسانية النبيلة، ليجد نفسه وهو في نهاية العقد السادس من عمره، أمام قرار العودة لوطنه وبنفس الطريقة التي خرج فيها منه، أي عبور الحدود بشكل غير شرعي، بعد أن فشلت كل محاولاته للعودة بشكل شرعي من خلال سفارة العراق “الجديد” في طهران.
عبر الاستعانة بأحد المهربين عاد محمد الى وطنه عن طريق (محافظة البصرة) وفي إحدى نقاط التفتيش وعندما سأل عن سبب حمله لمستمسكات عراقية يعود تاريخها الى السبعينيات من القرن المنصرم، شرح لهم واقع ما جرى له، وأنه اضطر للعودة بهذا الشكل بعد أن سدت كل الطرق أمامه. بعد الحجز والتحقيق أفرج عنه بكفالة بعد أن وصل أفراد من عائلته الى البصرة، ليعود الى وطنه وهو مثقل بفواتير تلك الغربة القاسية. التقيت به قبل عام تقريباً ولا اتذكر أنه قد حدثني عن موعد له مع محكمة الجنح بالبصرة، والتي حكمت عليه لاحقاً بالحبس لمدة ستة أشهر، قضاها في أحد سجون “العراق الجديد” بسبب عبوره للحدود الدولية بشكل غير مشروع…! من دون أن يكلف القاضي نفسه بالالتفات قليلاً لما يعرف بـ (روح القوانين) والتي تنتهك بأعز ما لديها؛ عندما تضع مثل هذا الإنسان خلف القضبان، وتترك حثالة وأوباش المجتمع يصولون ويجولون من دون رادع ولا راد لكل هذه الممارسات التي وضعت “العراق الجديد” على قائمة البلدان العشرة الأكثر فساداً في عالم اليوم. كان بمقدور القاضي الحريص جداً على “سلطة النص” أن يأخذ بنظر الاعتبار عمر وصحة هذا الابن البار بالعراق؛ ليصدر حكمه ذاك مع وقف التنفيذ، وذلك أضعف الإيمان، لا أن يرمي من كان مثالاً للعراقي الحر والشجاع خلف قضبان سجن، هو يعرف جيداً شروط الحياة اللا إنسانية التي تطفح من كل جوانب المكوث فيه. لقد احتفى (العراق الجديد وقضاؤه المستقل) بعودة محمد الى وطنه، بوضعه خلف قضبان سجن تشمئز الحيوانات من العيش فيه، لمدة تكفي لكي تضاف الى أوجاعه مرضي الضغط والسكر وشوط إضافي من الحسرة والخذلان.
سؤال بريء جداً للقضاء المستقل جداً؛ هل بمقدوركم تطبيق “سلطة النص” هذه على أولاد الست المستلقون على هرم سلطات “العراق الجديد” أم أن حزمكم وعنفوانكم وحنبليتكم متخصصة فقط بأولاد الجارية..؟!
جمال جصاني
محمد وسجون العراق الجديد
التعليقات مغلقة