جداريات كاظم الحجّاج

محمد خضيّر
1
يُفرِد المربد للشاعر كاظم الحجاج منصةً لإلقاء واحدة من حولياته الطويلة، ويُؤرَّخ المربدُ بهذه القصائد الحولية، ويقترن افتتاحه بها كل عام. مَن يقدم لإحياء المهرجان ينتظر مثل هذه المناسبة الفريدة. وبها يستعيد المربد عكاظاً وأشباهها من أسواق العرب الشعرية القديمة. في وقفة الشاعر تطل قامات الشعراء الحوليين القدامى، ويتكلم نوابغهم بلسانه. الحماسةُ نفسها، والحُكمُ لفرادة الصور والمعاني، ولفصاحة اللغة المرتحِلة بين اللهجات، المهذَّبة بالتجارب الصعبة. لن يحول المربد بغير هذه الرحلات والمصاعب، التي يحسّ الحجاج أنّ شعره سيعطل من دونها. إنْ كان الظرف والطبيعة الخاصة بالشاعر حكمتا بقعوده في مدينته البصرة، قلما يغادرها، فإنّ الأصوات السرمدية المتمازجة في حوليته المربدية ستنقله بكفالتها إلى أبعد من مناسبة المنصة وموسميتها. الشاعر الحجاج، المنفرد بصوته، محمولٌ على أجنحة الأبعاد المتصادية في الحوليات المعلّقة على جدارية الزمن، الملتفّة حول موقعه كنطاقٍ إشاريّ غير محدود بإيحاءاته الرافدينية.
2
يتصل الشاعر كاظم الحجاج بأعرق تقاليد المطولات التي أرساها شعراء معاصرون في منتصف القرن العشرين، بدر شاكر السياب ومحمود البريكان وبلند الحيدري. ثم تأتي مطولات الحجاج «نشيد النخلة» و»رسالة العين» و»سفر المرايا» لتضيف نبرةً قوية على التقليد الدرامي، الأيديولوجي الشعائري، والوجودي التأملي، وتنقله إلى مستوى جهير أعلى، تمتزج فيه أصوات الشارع بطبقة إنشادٍ كوراليّ متفاصِحة. في المطولات الجديدة تثقيفٌ لغوي، وتنبير لهجوي فصيح، وتشكيل ملوَّن لجداريات عريضة الدلالة على وجدان شعبوي كظيم. أمّا حين تظلّل هذه اللافتات/ المعلّقات الجديدة/ ناصيةَ «المنبر» فلكي تتخذه وسيلةً لتأويل خطابها على أكثر من مستوى شعري/ صوتي.
3
يستغل الشاعر كاظم الحجاج دراسته في كلية الشريعة، لتمثيل أصول الفقه الديني في كتابة قصيدة اختلافية، قادرة على ترويض المنبر لنبرتها. كان فقه الدين مفيداً لتفقيه الشعر، ومنطقُه البرهاني صالحاً لتبرير القصيدة وتقريبها من الأذواق والأسماع. كل مطولة من مطولات الحجاج هي برهان على قدرة المزج بين منطق النثر السالب وإيقاع الشعر الموجب. هي سبائك لغوية مثالية، نسبة الخبر فيها إلى التمثيل الشعري نسبة فقهية أصولية. وهذه ميزة كانت المطولة «السيابية» تتولاها بشحنات عاطفية باطنية، أو بشعائرية طبقية فئوية. لكن مطولة الحجاج توفرها بفقاهة شعرية خارجية، وبديهة مشرعة للهواء الطلق، مثل جدارية عالية الأركان.
4
منذ الآن سيعمد الشاعر الحجاج إلى اعتلاء المنبر، ليبرهن على قدرة القصيدة/ الجدارية في الانتشار فوق رؤوس الأشهاد، استثناء من الطبيعة اللغوية الهجينة من الشعر والنثر. ولربما خدمت لغةُ المغايرة/ مفارقةُ السخرية/ التي عُرِف بها الشاعر، بناءَ قصائده الدرامي، ونوّعت نبرات إلقائها المونولوجي على المنبر. يقف الشاعر وحيداً، فتتنادى في صوته عشراتُ الأصوات «المتنابرة» وهي تغادر الذاكرة الجمعية وترتمي في الأبعاد، بقوة المنطق الشعري المتطاول على فقهه الأصولي.
5
كتب كاظم الحجاج القصة في بواكير حياته، وما أخذه من القصة أضافه إلى الأساس الدرامي لمطولاته الشعرية. كل ما تتطلبه القصيدة/ الجدارية من تماسك بين وحداتها البنائية مدين لتلك التجربة السردية في الربط والتصعيد والحوار والنهايات المحكمة. فإذا لجأ الحجاج إلى الكتابة المسرحية، فهذا منطقي كمنطق النثر في شعره. إلا أنّ الاحتمال الأكبر هو عودته للقصة، أو ذهابه للرواية ذات البناء الحواري/ المجازي، المحكوم بفقه الشعر ومنطقه.
6
بين النبر والمنبر علاقة لغوية سيميائية، تتوسط العلاقة بين القصيدة والجدارية من جهة، وعلاقة النوع السردي والشعري من جهة أخرى. وهذه العلاقات المترادفة في مطولات الحجاج هي الإضافة الحقيقية الماثلة للجدال والمحاججة في حداثتنا الشعرية العربية. أما الوسيط الذي يشكل اختلافاً نتفق عليه، أو اتفاقاً نختلف فيه، أي المنبر المربدي، فهو قطعاً ما لا تُنكر أهميته في رفع المطولة الحجّاجية إلى مكانها المرموق على «جدارية النهرين» التي تظلّلنا جميعاً.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة