يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 12
حوارات مع جرجيس فتح الله*
كنت قد زودت ببطاقات انتماء وبنسخ من منهاج الحزب (وتجده مثبتا برمته في الجزء السابع من تاريخ الوزارات العراقية ).
لم يكن في المنهاج شيء يربطه بالماركسية من بعيد او قريب قدر ما كان منهاج الحزب الديمقراطي الكوردي الذي شكل سرا بعده بقليل قريبا من تلك المصطلحات بل وصرحا في اعتماده الاخذ بالنظرية الماركسية العلمية والاستهداء بها والافادة منها. وقد بقيت حجة قياداته الاولى كما عملت فيما بعد انه وكغيره من الاحزاب الثلاثة المجازة لم يسلم من التسلسل الشيوعي . فأختار ان يضمن هذه الفكرة منهاجه ليجتذب حسبما ادعى واضعوه اكبر عدد من الشيوعيين اليه بعكس عمل تلك الاحزاب التي كانت تقف حائلة دون التسلل .
اعود لاقول رجعت الى الموصل بعد عقد المؤتمر الاول (والاخير) للحزب ومعي كمية من بطاقات طلب الانتماء . وبدا لي الاقبال على طلب العضوية عاصفا كاسحا بين الاوساط الشعبية . ومع ان الطلبات كانت ترسل الى المقر مع التزكية المفروضة بالنظام الا ان الطالبين كانوا يتصرفون وكأن قبولهم امر مفروغ منه .
لا ادري ماذا كان يدفع هؤلاء البسطاء الفقراء وبعضهم لا يحسن القراءة والكتابة الى هذا التهافت . أكانوا يحسبون في الانتماء الى الحزب نهاية لمتاعبهم وضمانة لازالة الغبن الاجتماعي عنه بمجرد انخراطهم فيه ؟ لم اكن املك اذ ذاك النضوج السياسي المتكامل وبدأت اشعر بثقل المسؤولية والورطة ان شئت الدقة . في عين الوقت صرت ادرس بالتدريج تأثير الزعامة الحاسم في الحركة الجماهيرية ازاء ضعف الايدلوجية . بمراقبتي تأثير محاضرات صديقي محمد توفيق وقصائد (بشير مصطفى) فيهم وبكيفية انقيادهم العاطفي الذي كان احيانا يبلغ مبلغ الحماسة واني لاقول جازما بأن معظم هؤلاء السامعين لهما ما كانوا على درجة كافية من الوعي والادراك ليفقهوا اكثر مما يلقى عليهم . وتلك هي بذور الزعامة والقيادة . وقد اخرجت اشطاءها حين جاءني (محمد توفيق) مع ثلاثة اخرين لمفاتحتي بلهجة الواثق من مواقفه تلاميذهم التامة بأنهم يرون ضرورة اشراكهم في المسؤولية جميعا عن طريق تأسيس مكتب للحزب يتألف منهم ومني عضوا مثلهم . ولم اكن بحاجة الى كثير من التفكير لادرك النية في احداث انقلاب متطرف . فاستمهلت للاتصال بالمقر العام وكتبت مشددا على ضرورة قدوم رئيس الحزب فخف (عزيز) مسرعا. وعقد اجتماعا دام عدة ساعات مع رؤوس الانقلاب اكد فيه ان الحزب ليس حزبا ماركسيا ولا هو واجهة شيوعية وانما هو حزب ديمقراطي صرف وبين بصراحة رفض الحزب اي تيار يناقض بأي شكل الاسس والمبادئ المسطرة في منهاجه وما الى ذلك . وتظاهر المستمعون بالاقناع . وعاد(عزيز) ظافرا بما ابداه الانقلابيون من خضوع الا ان الامر لم يكن كذلك .
مع ذلك كان وضعي في مركز المسؤولية اكثر مما يتحمله ابن الرابعة والعشرين بقلة تجربة سياسة وخبرة في الحياة الحزبية , وجهل او تجاهل يكاد يكون فاضحا بالوسط المحافظ الذي اعيش فيه . فقد كان هناك فضلا عن هذا الضغط الداخلي , الضغط الخارجي العظيم المتمثل في السلطة المحلية وفي فرع حزب الاستقلال الذي خصني مسؤولوه بالعداء السافر الى حد الاعتداء الشخصي . واحدة منها اذكرها بتفاصيلها كأنها وقعت امس, ومرسحها غرفة المحاميين في الموصل.
عود الى الصحافة وحلف بغداد
ولم يتح لي دور في نشاط الحزب حتى العام 1957, عندما عاودني الحنين الى الصحفي , مع ثقتي بأني سأنجح في الحصول على امتياز بوجود اللواء (سامي فتاح) وزيرا للداخلية . وكنت على معرفة جيدة به بواقع كوني وكيلا قانونيا لطائفة من اقربائه وانسبائه وكلهم تقريبا ممن “لا يمكن ان يرفض لهم رجاء . وممن لا يمكن ان يرفضوا لي رجاء ” كالحصول على امتياز جريدة والتوسط لي بها .
واخترت اسم “الرائد” للصحيفة وانهيت تخطي جميع الموانع والعقبات التي وضعها مرسوم المطبوعات في سبيل صاحب الطلب الا واحدة وهي اهمها وعليها يتوقف كل شيء . كان الوزير يستطيع ان يتجاوز امرها ويصدر قراره بمنح الامتياز نفسه في موقع مسؤولية كبيرة . وتلك هي وثيقة تشهد بسلامتي من عدوى الافكار اليسارية الهدامة وتعرف رسميا بشهادة حسن السلوك . ويجب ان تصدر من مديرية الامن العامة . وان تحمل توقيع مدير الامن العام (بهجت العطية) والوزير لا يستطيع ان يرغم مرؤوسه هذا على اصدارها.
سبقتني الى (العطية) مكالمة تليفونية من الوزير . وقصدته صحبة شخصية خطيرة . وهو نسيب للوزير نفسه . كان للرجل مقامه الكبير وصلته وثيقة بالبلاط الملكي (والعطية) يعرف ذلك وقد تلقاه على الدرج . رجل ذو نفوذ واحترام متأت من سمعة عالية وعزوف عن المناصب الكبيرة . وبعلمي الخاص ان نوري السعيد عرض عليه المشاركة في الوزارة مرتين فأبى اذ كان يولي كل اهتمامه بزراعته الواسعة . وكنت وكيله العام القانوني.
هيأت نفسي للجواب حول انتمائي الى حزب الشعب . وكانت السلطة حين اصدرت قرارها بالغائه قد وضعته في قائمة الاحزاب الماركسية سيما بعد انضمام بقية اعضائه الى تنظيم شيوعي . لم يكد يستقر بنا المقام حتى دخل مدير امن بغداد واسمه ام لم تخني الذاكرة (رفيق) ووضع ملفا امام (العطية). مشيرا فيه الى وثيقة معينة .
كنت مخطئا في حسابي لم يسألني (العطية )عما جال في ذهني بل اشار الى توقيع لي على مذكرة لانصار السلم . كنت قد نسيت امرها تماما .
سأورد هنا بأختصار ما دونته عن المقابلة في الجزء الثاني من كتابي “العراق في عهد قاسم” وبقدر ما وعته الذاكرة .
قلت: القانون لم يكن يعتبرها جريمة وقت توقيعي . ولست بعلام الغيوب ولا بمن خص بنبوة ليوحى اليه قانونا سيصدر بها . والمبدأ الذي جرى عليه قانوننا انه لا مؤاخذة على عمل لم يكن القانون يعده جرما . ثم أضفت انكم اصدرتم خمسة كتب حوت اسماء الشيوعيين والمنظمات التابعة له كمنظمة انصار السلم .
قال”هذا صحيح . ولكن توقيعك ها هنا . لكن اكراما لمقدم (فلان) سأوضح موقفي وهو ما يعد سرا . نحن مقيدون بأتفاقات وبروتوكولات سرية ملحقة بالمعاهدة المركزية (حلف بغداد) بخصوص مكافحة الاراء الهدامة وبموجب اتفاقاتنا التركية التي سبقت المعاهدة تم وضع الخطط والتدابير للتعاون المشترك من خلال اجتماعاتنا . ومن جملة هذه التعابير التي اتخذت للمكافحة استحصال قرار نبذ لها من كل من حكم عليه او اشتبه بصلة او كان على صلة بمنظماتها . وانا لست بقاض اطبق قانونا خلال محاكمة . فهذه تعليمات ومقررات ادارية واتفاقات دولية.”
قول (العطية) لم يعد الحقيقة . فمنذ التوقيع على ميثاق التحالف مع تركيا في العام 1954 . وهو الميثاق الذي قامت ضده قيامة احزاب المعارضة , اذ كان النواة لحلف المعاهدة المركزية –اخذت تظهر في مختلف صحف العاصمة اعلانات بتوقيع شيوعين سابقين او من تفترض السلطة انهم كذلك –يعلنون فيها تبرؤهم او نبذهم للعقيدة وكانت تلك الاعلانات بصيغة واحدة لا تتغير , وهي لا شك من وضع دائرة الامن وكان الامر من الخطورة بمكان لان من تستهدفه السلطة بالطلب فيأبى , عرض نفسه لاسقاط الجنسية العراقية عنه وترحيله الى بلاد عضوة في ذلك الحلف لتبقيه عندها سجينا حتى وفاته . حتى ذلك الحين كنت اعتبر البراءة مجرد اجراءات داخلية لا جزء من مقررات سرية لهذا الحلف . وان ترحيل الاستاذين قزانجي ومنير في العام 1954 انما كان بأتفاق خاص مع السلطات التركية لا غير .
كان الموقف واضحا بما فيه الكفاية . وتساءلت في سري ايسوى طلب امتياز جريدة ان يكذب الانسان على نفسه فيعترف ضمنا بشيء لم يؤمن به عن طريق نفيه ؟
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012