د.عبد اللطيف جمال رشيد
تجاوزنا مرحلة الاستفتاء وأصبحت وراء ظهورنا، ودخلنا في فترة الانتخابات التشريعية المزمع عقدها في آيار المقبل، وهي مرحلة تفرض علينا جميعا التفكير والسعي الحثيث لايجاد علاقات متوازنة بين مشتى أطياف الشعب العراقي، خصوصاً بعد مختلف التداعيات التي شهدها إقليم كردستان وعلى جميع الأصعدة بعد يوم 25 أيلول الماضي.
صحيح أن الإستفتاء هو حق مشروعٌ للشعب الكردي كما لغيره من الشعوب، وكان مؤيّداً من قبل الجماهير الكردية، ولكن المشكلة كانت تكمن في الآليات والظروف الموضوعية التي كان ينبغي أن تتوفّر لإتمامه، وقد نبّهنا إلى هذا الأمر المهم في مقال سابق نشرناه قبل إجرائه بنحو شهرين وقلنا في حينه «لا ينبغي إضاعة فرصة تاريخية أخرى من دون أخذ الأسباب الضامنة للوصول الى ما يتمناه الشعب الكردي منذ أمدٍ بعيد لمجرد تحقيق أمجاد حزبية أو طموحات شخصية لفرد أو مجموعة على حساب شعب كردستان وحلمه المشروع».. ولكن حصل الذي حصل، وأدّت القرارات الفردية لبعض القوى السياسية الى ما نحن عليه اليوم من ضياع شبه تام لحقوق شعب كردستان وتراجع الثقل الكردي في الساحة العراقية. وأشرنا في مرّاتٍ سابقة كذلك الى أن هذه الحقوق هي مستغلّةً من قبل أطراف في حكومة الاقليم وبعض الاحزاب السياسية ولم يتنعم بها الشعب الكردي كما ينبغي.
وللأسف الشديد ما زالت هذه الاطراف نفسها تعمل على أن تبقى كثيرا من الأمور معلقةً مثل واردات النفط وانعدام الشفافية والتنصّل من تنفيذ المادة 140 الدستورية وعدم انتخاب مجلس محافظة لكركوك لسنوات عديدة واستغلال ظروف المدينة من قبل بعض الشخصيات السياسية، وقطع الرواتب وسحب أموال التجار والمصارف المحلية والخارجية، فضلاً عن تقييد حرية القضاء والصحافة والهجوم على الاعلاميين والشخصيات التي تنادي بالشفافية .. كل هذا أدّى الى ضغط اقتصادي واجتماعي ونفسي كبير على الشعب الكردي وأساءت الى سمعة الإقليم.
يقع اللوم على جميع الأطراف السياسية سواء في الإقليم أو في العراق؛ لإفساحهم المجال لكثير من الشخصيات في القيام بالأعمال غير القانونية وترك المجال لهم كل هذه المدة الطويلة. وقد كان الأولى بالحكومة الاتحادية «المركزية» اتخاذ الاجراءات التي من شأنها أن تردع الفاسدين وسالبي حقوق الناس، ولكن الوجوه بقت هي نفسها، والأمور بقت بيد الأشخاص المسبّبين نفسهم لهذه الفوضى العارمة.
كان من المفترض بعد انتهاء مرحلة الاستفتاء أن يكون تجاوب الحكومة الاتحادية مع مطالبات الناس المشروعة بجدية أكبر وبوتيرة أكثر سرعةً، تتناسب مع ما يمرّ به الشعب الذي قطعت الرواتب عن معظمه ومنذ شهور عديدة، وما سبّبه ذلك من معاناة حقيقية لشرائح كبيرة من المجتمع، خصوصاً وأن ذريعة «الإنفصال» قد انتهت، وأصبحنا في وقت يحتّم على أصحاب القرار التفكير بجدية أكبر في إستحقاقات هذه المرحلة التاريخية المهمة في شكل ونوع العلاقة بين الحكومة الاتحادية والإقليم.
نحن اليوم فعلاً في مرحلة أسوأ مما كنّا نتوقعه، وقوائم الإنتخابات بشكلها الحالي لا تؤشّر على تفاؤل مرجو في المستقبل، وخاصة في إقليم كردستان وكركوك، وقد بدأت الصراعات الشخصية والمادية داخل الأحزاب الكردية والمسؤولين الحكوميين. وسيكون المستقبل أكثر سوءاً إذا ما لم يتم محاسبة الفاسدين وبكل وضوح، لا أن يترك الفاسدون ليكونوا هم من يحاسب الفاسدين! يجب أن يتم إفراز قيادات مسؤولة جديدة ونظيفة من خلال عقد مؤتمرات للأحزاب وهذه مهمة وطنية ملحّة وضرورية، وبغير هذا ستكون الأمور أخطر وأصعب على الشعب الكردي.
ويجب على الحكومة الاتحادية أن تقوم بالدفاع عن حقوق العراقيين جميعاً والكرد منهم، واحترام هذه الحقوق حسب الدستور. واذا تطلب الأمر إجراء بعض التعديلات على الدستور من أجل توطيد التوافق الوطني بين العراقيين، فليكن. يجب عدم استغلال أخطاء المسؤولين لمعاقبة الشعب الكردي، وإنهاء الحصار على الجماهير في إقليم كردستان ودفع رواتب الموظفين؛ خصوصاً بعد انتهاء الحرب مع داعش وانتعاش أسعار النفط مما لا يبقى معه أيّ مبرّر لاستمرار مثل هكذا سياسات.
إن العمل الوطني الحقيقي هو الضامن الأكيد لحقوق العراقيين جميعاً من دون تمييز، وهو ما يجعلنا نؤكّد ضرورة قيام الحكومة الاتحادية والبرلمان بالعمل على النقاط التالية – وسواها كثير- التي تشكل في رأينا اللبنة الأساسية في بناء مشروع وطني يسهم في توطيد دولة المؤسسات التي نطمح اليها جميعاً، دون أن تقصي أحداً أو تضيِّع حقوق أيٍّ من مكونات الشعب العراقي:
– وضع خطة فنية جدية لتشكيل جيش عراقي وطني حسب معايير الكفاءة والمهنية والنزاهة؛ يعمل على حماية أمن العراق في كافة أنحاءه.
– تشريع قانون تفصيلي للنفط والغاز (Hydrocarbon) يوضع من قبل متخصصين لمصلحة الشعب العراقي وحسب الدستور، وإناطة عمل المؤسسات النفطية بيد ذوي الإختصاصات الفنية والإقتصادية حصراً وعدم ترك القرارات الخاصة بهذا الحقل المهم للأحزاب السياسية التي دائماً ما يستغلونها لمصالحهم الفئوية.
– الشروع بتقوية المؤسسات الحكومية والاعتماد على النزيهين من الكفاءات والحد من سطوة الاحزاب السياسية على مقدّرات الدولة، ومحاربة الفساد الذي يجب أن يتحول من مرحلة الشعارات الى مرحلة التنفيذ الفعلي وعلى شتى الأصعدة بدءاً من سوء الأداء الى الإستغلال الوظيفي وليس انتهاءً بهدر أموال الشعب.
– العمل على ان تكون الانتخابات القادمة شفافة وأن يتم فسح المجال أمام القدرات الكفوءة والمخلصة لتحمل المسؤولية في بناء البلد، وهنا نستغرب عدم تقديم أيٍّ من الاطراف السياسية برنامجها الإنتخابي، كما أننا نلاحظ الدفع بالشخصيات المحسوبة على بعض القيادات أو الاحزاب فقط لملء الفراغ وليس لمصلحة البلد.
لن تتمكّن حكومة الاقليم بوضعها الحالي من القيام بدورها كسلطة قانونية أو فعلية؛ بسبب سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني عليها. وقيام بعض الاحزاب المشاركة في الحكومة بسحب يد وزرائها من الإئتلاف. وكذلك عدم حضور معظم الوزراء في مكاتبهم لمباشرة مهامهم. وتفيد بعض المعلومات بأن هناك وزارء ممّن تسنموا حقائب حساسة ليسوا موجودين لا في أربيل ولا في بغداد ولفترات طويلة.
يحدث هذا في ظل أجواء من (التخادم السياسي) بين المتطرفين الحزبيين في السلطتين، ببغداد وأربيل. فكلُّ منهما يفكّر بأنّ المزيد من التشدّد ضد الطرف الآخر يساعده ويستفيد منه انتخابياً، وبهذا فإنّ المتطرفين يخدمون بعضهم البعض على حساب معاناة الملايين من الكرد، وعلى حساب البناء الوطني للسلطة في العراق.
*وزير الموارد المائية السابق ومستشار رئيس الجمهورية