رفقاً بعراقيتكم

غير القليل من وسائل الإعلام (التقليدي والحديث) التي طفحت بعد الفتح الديمقراطي المبين، وعلى رأسها القنوات الفضائية التي تكاثرت لأسباب وعلل لا علاقة لها بحاجات إعادة بناء الحجر والبشر، بعد زوال أبشع نظام توليتاري عرفه تاريخ المنطقة الحديث؛ تدفع المتلقين لخطاباتها الى دروب الضياع، عبر صناعة حروب ومعارك واهتمامات بعيدة كل البعد عن المخاطر والتحديات الفعلية، وبنحو خاص ما يتعلق بالإرث الكارثي من التشرذم والتمترس الذي خلفته اربعة عقود من حكم النظام المباد، التي يفترض أن تحظى بالاهتمام الأكبر من لدن السلطة الأكثر تأثيراً في عالم اليوم (ورش المعلومة والمعرفة والإعلام). لكن من سوء حظ سكان هذا الوطن المنكوب؛ أن تترافق لحظة تحررهم من الطغمة الغاشمة ربيع العام 2003 بهذا النوع من وسائل الإعلام التي تفتل عنق الحقائق صوب المزيد من التشرذم والانحطاط في المواقف والوعي. المتابع لنشاطها لن يجد صعوبة في تحديد نوع اهتماماتها وإصرارها على الابتعاد عن وظائف الإعلام المهني والمسؤول، عندما لم تكتف بنشر وبث فايروس “الثنائيات” والتفرقة بين العراقيين على أساس العرق والطائفة والرطانة والاعتقاد وحسب، بل ذهبت بعيداً الى ما يعرف بثنائية (الداخل والخارج) حيث يتم التمييز والتفرقة بيننا على أساس من هاجر من الوطن ومن بقي فيه زمن النظام المباد. حيث يصر القائمون على ترويج مثل هذا الوعي الزائف، على شيطنة الآخر وتحميله كل موبقات عراق ما بعد “التغيير”، ليدفع بالجموع للهرولة بعيداً عن الجذور والعلل الفعلية للفساد والخيبات. وهي أعمال ونشاطات غير عفوية، تختزن في غاياتها وأهدافها النهائية مقاصد تتنافر وحاجات العراقيين للوحدة والتراص في مثل هذه المنعطفات المصيرية من تاريخهم الحديث.
لقد تطرقت مراراً لما مررنا به طوال ربع قرن من العيش في المنافي، وأشرت الى جوانب من حياة ما يطلق عليه بـ (عراقيو الخارج) والى التفاوت والاختلاف بين شرائح هذا الطيف الواسع الذي يتجاوز عدده الخمسة ملايين عراقي، يتوزعون بين المنافي القريبة المجاورة لوطنهم، والمنافي البعيدة. ومن عاش مثل هذه التجربة، يعرف نوع وحجم وشدة الاختلاف والتنافر بينهم، وهذا أمر طبيعي، حيث الصالح والطالح كما يقال، والأمر لا يختلف كثيراً عند من يطلق عليهم (عراقيو الداخل) حيث القلة من مرتزقة النظام المباد وأتباعه والمنتفعين من “مكرماته” والغالبية الساحقة من المتضررين من سياساته المتهورة ومغامراته. إن محاولات التمويه والتعمية على هذه الحقيقة الجوهرية، عبر التعبئة والتجييش ضد بعضنا البعض الآخر على مثل هذه الأسس والمعايير الواهية والمعطوبة؛ يجعل من مهمة مد الجسور بيننا كعراقيين (في الوطن أو المهجر) وزج كل الطاقات والإمكانات لإعادة بناء وإعمار الوطن؛ أمراً شاقاً وعسيراً. لا يتناطح كبشان على حاجة العراق الجديد الى تلاقي روافده السليمة والموجودة داخل الوطن وخارجه، والحذر من كل أنواع المحاولات التي تعرقل هذا التلاقي ومنها على سبيل المثال لا الحصر ثنائية عراقيو (داخل- خارج) والتي تشرع الأبواب أمام تسلل المخلوقات والجماعات الفاسدة داخل العراق وخارجه ليحكموا قبضتهم على مقاليد السلطات والثروات والقرار. إننا اليوم بأمس الحاجة الى إعلام آخر، يقتفي أثر التجارب الرائدة في هذا الحقل الحيوي من حياة المجتمعات والدول التي عرفت مثل هذه التجارب الانتقالية في تاريخها الحديث، إعلام يكرس كل إمكاناته ومواهبه لدعم تطلعات العراقيين المشروعة باسترداد تراصهم وتضامنهم وهويتهم الوطنية والحضارية العريقة..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة